الاثنين، 28 يناير 2013

لوحات فنية من مصر...القرن التاسع عشر...روعــــــــــــة


السوق فى وجه بحرى

المصلون على السطوح عام 1865

الأهرامات في الغسق، 1907

بائع البطيخ

باب الحريم، محلات القاهرة، 1876

بازار فى القاهرة

بائع التبغ، القاهرة 1891

حاملى الماء 1880

خان الخليلى 1860

شارع من بولاق فى القرن التاسع عشر

ساحر الافعى من مدينة الاقصر عام 1870

مساومة بائع 1856


طريق الاهرامات بالجيزة 1873

من داخل مسجد 1870

...تابع القراءة

الخميس، 17 يناير 2013

من جرائم الفرنسيس فى مصر....حتى لاننسى



"فلما كان يوم الاربعاء العشرون من شهر محرم وردت مكاتبات من الثغر ومن رشيد ودمنهور بان في يوم الاثنين ثامن عشره وردت مراكب وعمارات للفرنسيين كثيرة فارسوا في البحر وارسلوا جماعة يطلبون القنصل وبعض اهل البلد فلما نزلوا اليهم عوقوهم عندهم فلما دخل الليل تحولت منهم مراكب الى جهة العجمي وطلعوا الى البر ومعهم آلات الحرب والعساكر فلم يشعر اهل الثغر وقت الصباح الا وهم كالجراد المنتشر حول البلد فعندها خرج اهل الثغر وما انظم اليهم من العربان المجتمعة وكاشف البحيرة فلم يستطيعوا مدافعتهم ولا امكنهم ممانعتهم ولم يثبتوا لحربهم و انهزم الكاشف ومن معه من العربان ورجع أهل الثغر الى التترس في البيوت والحيطان ودخلت الافرنج البلد وانبث فيها الكثير من ذلك العدد كل ذلك واهل البلد لهم بالرمي يدافعون عن انفسهم وأهليهم يقاتلون ويمانعون فلما أعياهم الحال وعلموا انهم مأخوذون بكل حال وليس ثم عندهم للقتال استعداد لخلو الابراج من آلات الحرب والبارود وكثرة العدو وغلبيته طلب أهل الثغر الامان

فآمنوهم ورفعوا عنهم القتال ومن حصونهم انزلوهم ونادى الفرنسيس بالامان في البلد ورفع بنديراته عليها وطلب أعيان الثغر فحضروا بين يديه فالزمهم بجمع السلاح واحضاره اليه وان يضعوا الجوكار.

ولما وردت هذه الاخبار مصر حصل للناس انزعاج وعول اكثرهم على الفرار والهجاج وأما ما كان من حال الامراء بمصر فان إبراهيم بك ركب الى قصر العيني وحضر عنده مراد بك من الجيزة لانه كان مقيما بها واجتمع باقي الامراء والعلماء والقاضي وتكلموا في شأن هذا الامر الحادث الى اسلامبول وان مراد بك يجهز العساكر ويخرج لملاقاتهم وحربهم و انفض المجلس وأخذوا في الاستعداد للثغر وقضاء اللوازم والمهمات في مدة خمسة ايام فصاروا يصادرون الناس ويأخذون أغلب ما يحتاجون اليه بدون ثمن .

وفي يوم الاثنين وردت الاخبار بان الفرنسيس وصلوا الى دمنهور ورشيد وخرج معظم أهل تلك البلاد على وجوههم فذهبوا الى فوة نواحيها والبعض طلب الامان وأقام ببلده وهم العقلاء وقد كانت الفرنسيس حين فلولهم بالاسكندرية كتبوا مرسوما وطبعوه وأرسلوا منه نسخا الى البلاد التي يقدمون عليها تطمينا لهم ووصل هذا المكتوب مع جملة من الاسارى الذين وجدوهم بمالطة وحضروا صحبتهم وحضر منهم جملة الى بولاق وذلك قبل وصول الفرنسيس بيوم او بيومين ومعهم منه عدة نسخ منهم مغاربة وفيهم جواسيس وهم على شكلهم من كفار مالطه ويعرفون باللغات."

و قد جاء بالمرسوم أن بونبات جاء ليحرر المصريين من ظلم الممااليك و أنه محب للإسلام و للسلطان و أنه أكثر إيمانا من المماليك و من نص ذلك فيه:

" وقولوا للمفترين انني ما قدمت اليكم الا لاخلص حقكم من يد الظالمين وانني اكثر من المماليك اعبد الله سبحانه وتعالى واحترم نبيه والقرآن العظيم وقولوا ايضا لهم ان جميع الناس متساوون عند الله فان كانت الارض المصرية التزاما للماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم"

و جاء أيضا فى المرسوم:
"كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار ".

فيضان الثورة :
كان طائف الثورة يطوف فى مختلف البلاد ، بحيث كانت إذا أخمدت من جهة انبعثت من جهة أخرى، قال ريبو أحد مؤرخو الحملة الفرنسية فى هذا الصدد: " كان الجنود يعملون على إخماد الثورة بإطلاق الرصاص على الفلاحين، و فرض غرامات على البلاد، و لكن الثورة كانت كحية ذات مائة رأس، كلما أخمدها السيف و النار فى ناحية ظهرت فى ناحية أخرى أقوى و أشد مما كانت، فكأنها كانت تعظم و يتسع مداها كلما ارتحلت من بلد إلى آخر."

وقال فى موضع آخر يصف حالة الشعب النفسية و مركز الفرنسيين :"إن مصر قد فوجئت بالحملة الفرنسية، فأخذت تنتفض و تجاذب للتخلص من قبضة الفاتح الحديدية، لقد كنا نرابط فى مصر و نحتلها احتلالا عسكريا و على الرغم مما بذلناه من الجهود ليقبلنا الشعب كما يتقبل محرريه! فقد بقيت سلطتنا قائمة على القوة لا على الإقناع ، و كان اختلاف الدين و اللغة و الطباع و العادات ممايجعل الامتزاج بين الغالب و المغلوب عسرا بعيد الحتمال، فكانت سياستنا قائمة على إكراه الشعب على الإذعان بالحزم مرة، و بالقوة مرة، و قمع كل ثورة، و مكافأة من يخدم السلطة الفرنسية ،
و لإدراك هذه الغاية وزع بونبارت الجيش على مختلف أنحاء القطر لإخضاعها و جعلها موضع مراقبة دقيقة، و كان قواد الفرق فضلا عن اختصاصهم ال حربية، يتوالون الإشراف على الأعمال الإدارية و المالية فى مديرياتهم و يراقبون جباية الأموال و الغرامات فى الأقاليم."

أولا: المقاومة فى الوجه البحرى:
بدأت المقاومة فى الوجه البحرى قبل احتلال الفرنسيين القاهرة فى 24 تموز 1798 ، و استمرت هذه المقاومة و لئن هدأت عقب احتلال القاهرة لكنها لم تستسلم للاحتلال الفرنسى . فما اندلعت ثورة القاهرة الأولى فى 21 تشرين الأول 1798، حتى انتقلت روح الثورة إلى الوجه البحرى . و لا غرو فى ذلك فالوجه البحرى كان أول منطقة مصرية قصدتها الحملة الفرنسية التى نزلت على شواطئه، فكانت الإسكندرية أول مدينة يحتلها الفرنسيين فى 2 تموز 1798 ، و فى 9 تموز 1798 قامت الحملة من الإسكندرية فى طريقها إلى القاهرة فاصطدمت بمقاومة المصريين فى البحيرة.

خريطة توضيحية للحملة الفرنسية على مصر وسوريا

1-فى البحيرة:

كانت البحيرة أول مديرية اجتازها الجيش الفرنسى فى زحفه إلى القاهرة ، فلاقت من وراءه اجتيازه أذى كبير من اعتداء الجنود و نهبهم القرى و المنازل . و لكن مالبثت المتاعب أن لحقت بجيش الاحتلال . فقد أخذ رجال المقاومة المصرية يتصيدون الدوريات الفرنسية و منها دوريات كانت تحمل باريد نابليون ، و تعرض الفرنسيون لشدة العطش بسبب ردم العربان الآبار فى هذه المنطقة التى و صفوها بالصحراء ، مع أنه ليس هناك إجماع من قبل الجغرافيين على صحة هذا الوصف.
و ما إن وصل الجيش الفرنسى إلى دمنهور حتى إصدر نابليون أوامره بمواصلة الزحف للرحمانية التى شهد فيها الجنود الفرنسيين نهر النيل لأول مرة ، فكانت فرحتهم كبيرة حتى هناك بعضهم لقى حتفه لكثرة شربهم من مياهه .

و فى 13 يوليو 1798 ، و قعت معركة شبراخيت بين جيش مراد بك و كان تعداده 12 ألف رجل ، منهم ثلاثة آلاف من فرسان المماليك و الباقون من الفلاحين المصريين الذين تسلحوا بالعصى و البنادق القديمة ، و بين الجيش الفرنسى الذى كان ينقصه الفرسان ، و مع ذلك انتصر على جيش مراد بك الذى يجهل الأساليب الحديثة فى القتال . و تبين أن القسط الذى احتله الأهالى فى هذه المعركة كان كبيرا بل كان أكبر من قسط المماليك.

ثم تابع الجيش الفرنسى زحفه قاصدا القاهرة و كان الأهالى يتعقبون فرق الجيش الزاحفة فيقتلون كل من يدركونه . و لقى الفرنسيون عناء كبيرا فى اجتياز هذه المرحلة ، و مع ذلك قاموا بنهب عدة قرى فى طريقهم للقاهرة .

و لئن هدأت المقاومة فى البحيرة عقب ورود الأخبار باحتلال الفرنسيين القاهرة ، فإن الأهالى كانوا يتحينون الفرص لمقاومة الفرنسيين و خاصة عندما علموا بنبأ ثورة القاهرة الأول مما ساعد فى تحركهم ضد الاحتلال الفرنسى فى نوفمبر 1798 ، فهاجموا قوافل الفرنسيين شمال البحيرة .

و يذكر الجبرتى عن موقعة شبراخيت:"
وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر وردت الاخبار بان الفرنسيس وصلوا الى نواحي فوة ثم الى الرحمانية واستهل شهر صفر سنة 1213 وفي يوم الاحد غرة شهر صفر وردت الاخبار بأن في يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر محرم التقى العسكر المصري مع الفرنسيس فلم تكن الا ساعة وانهزم مراد بك ومن معه ولم يقع قتال صحيح وانما هي مناوشة من طلائع العسكرين بحيث لم يقتل الا القليل من الفريقين واحترقت مراكب مراد بك بما فيها من الجبخانة والآلات الحربية واحترق بها رئيس الطبجية خليل الكردل وكان قد قاتل في البحر قتالا عجيبا فقدر الله ان علقت نار بالقلع وسقط منها نار الى البارود فاشتعلت جميعها بالنار واحترقت المركب بما فيه من المحاربين وكبيرهم وتطايروا في الهواء فلما عاين ذلك مراد بك داخله الرعب وولى منهزم وترك الاثقال والمدافع وتبعته عساكره ونزلت المشاة في المراكب ورجعوا طالبين مصر".

و فى 24 إبريل اندلعت فى البحيرة ثورة عظيمة- و كان بونبات فى حملته على سوريا- ذلك أن ظهر فيها رجل من طرابلس ادعى المهدية، و دعا الناس لقتال الفرنسيين. و ليلة 24 وصل دمنهور فأمر رجاله بالهجوم على الحامية الفرنسية فقتلوا رجالها جميعا و استولوا على السلاح و المدافع. و كان لهذا الانتصار أثر كبير فى نفوس أهالى مديرية البحيرة فزاد عدد أتباعه.
و كان فى الرحماية فرقة من الجيش الفرنسى فلما وصل أخبار استيلاء المهدى على دمنهور سار قائد الفرنسيين هناك للقضاء عليه فى 500 جندى.فوقعت معركة كبيرة بين الرحمانية و دمنهور اضطر بها القائد الفرنسى للانسحاب، و لكن الجنرال لانوس عاد و هزم رجال المهدى، و دخل دمنهور فى 10 مايو ، وفتك بالأهالى انتقاما و فر أتباع المهدى و لم يعرف إن كان قتل أو فر.


2-فى رشيد:
تعتبر مدينة رشيد مفتاح النيل على البحر المتوسط ، فهى تقع على الضفة الغربية من الفرع الغربى للنيل ، أى فرع رشيد كما تعتبر طريق المواصلات النيلية إلى داخل البلاد . و كان لها أهمية حربية كبرى لأنها صلة الاتصال الجيش الفرنسى بين القاهرة و الإسكندرية عن طريق النيل ، لأن المواصلات البرية كانت مهددة من جانب الأهالى بداخل البلاد.

احتل الفرنسيين رشيد فى 6 يوليو 1798 دون مقاومة ، بعد أن هرب الحكام المماليك منها عندما علموا بنبأ احتلال الإسكندرية . و عين نابليون الجنرال مينو حاكما لرشيد ، فهدأت له الأحوال أول الأمر . لكن مركزه ازداد حرجا بعد موقعة أبى قير البحرية (1-2أغسطس1798) لأن رشيد كانت من أولى المدن التى علمت بكارثة الأسطول الفرنسى و هزيمته فى خليج أبى قير ، كما كانت أكثر المدن تأثرا من وقوع هذه الكارثة ، فأخذت روح المقاومة فى نفوس سكانها .

و قويت روح الثورة فى ضواحي رشيد فى نوفمبر 1798 ، و ذلك فى اعقاب ثورة القاهرة الأولى التى لعبت دور المصدر الرئيسى لسريان الهياج و الثورة فى أنحاء البلاد . كما كانت السفن الإنجليزية و التركية توفد بعض الرسل إلى الشاطىء لتحرض الأهالى على الثورة . و هكذا تكرر هجوم المصريين على قوافل الفرنسيين فى جهات رشيد و أبى قير و شمال البحيرة .


3- فى الشرقية:


فر إبراهيم بك بمماليكه عقب انتصار الفرنسيين فى معركة امبابة (21 يوليو 1798) إلى جهة بلبيس عاصمة الشرقية . لكن نابليون وجد خطرا يتهدد مركز الفرنسيين من وجود هذه القوة فى شرق الدلتا و على مسافة 40 كم تقريبا من القاهرة ، فعزم على مطاردة إبراهيم بك لخلص له الوجه البحرى .
أضف لهذا اقتراب وصول قافلة الحج ليكتسب نفوس المصريين و و العالم الإسلامى ، ثم ليقنع شريف مكة و عرب الحجاز و اليمن أن وجود الفرنسيين فى مصر لا يقطع سبل الحج الذى هو مصدر أرزاقهم . بدأت طلائع الجيش الفرنسى تزحف يوم 2 أغسطس 1798 من القاهرة ، فاحتلوا الخانكة يوم 6 أغسطس . و فى الخانكة وثب الشعب على جنود الجيش الفرنسى و استولوا على سلاحهم و قتلوهم ، فانسحب 600 جندى من المنطقة إلى المرج و طلبوا النجدات ، ثم كروا عائدين إلى الخانكة فإذا هى خالية فأشعلوا فى البلدة النار .

و توالت التقارير على نابليون ، و كل الدلائل تدل على أنه لابد من قوة كبيرة لإخضاع هذه الجهات . سار نابليون نفسه إلى بلبيس ثم أسرع إلى الصالحية متعقبا بعض فلول المماليك دون أن يصحب سلاحه الثقيل معه ، و كاد نابليون و قوته ان تدمر فى هذه الملحمة التى استعمل بها السلاح الأبيض لولا أن أدركته النجدات ، و قتل و جرح عدد من الفرنسيين من بينهم ضباط كبار . ترك نابليون هذه الحملات التأديبية لقواده ، و عاد إلى القاهرة بعد أن أمر بأن تكون بلبيس مركزا عسكريا رئيسا .

و لكن وفرة القوات الفرنسية لم تمنع الأهالى من تكوين قوات فدائية أخذت تغير على المعسكرات راكبة خيولها ، و الزمت قوات العدو بأن تحتمى ببيوت بلبيس نفسها حتى أقبل المدد ، و بدأت المدفعية تعمل عملها فى رد جموع الفرسان المصريين .و بلغ عنف المعارك أن نهب المعسكر الفرنسى الرئيسى أكثر من مرة ، و على الرغم من أوامر نابليون باستعمال منتهى الشدة فى أخذ الرهائن و إعدامها و إحراق القرى ، فإن مقاومةالشرقية حملت قائد بلبيس أن يفاوض زعماء الثورة فى الصلح ، و لكن أحدا لم يقبل منه أقل من إخلاء المنطقة كلها، و استمرت الاضطرابات فى الشرقية خاصة بعد اندلاع ثورة القاهرة الأولى.

أما فى مارس 1977 و أثناء حملة بونبارت على الشام، قامت ثورة أخرى بالشرقية و هى ثورة أمير الحج. كانت و ظيفة إمارة الحج من الوظائف الكبرى فى القطر المصرى، و كان لا يتقلدها سوى كبار الأمراء و المماليك، و عندما جاءت الحملة أسند نابليون هذه الوظيفة لمصطفى بك بدلا من صالح بك الذى كان من أتباع مراد بك.
و عندما بدأ نابليون حملته على سوريا خيل لمصطفى بك أنه يستطيع بما له من مركز إمارة الحج أن يثير حربا على الفرنسيين فنادى بالجهاد،و امتد لهيب الثورة إلى مديريتى الشرقية و المنصورة . و كانت مظالم الفرنسيين من دوافع الثورة، و أصبحت الثورة أن تتحول لحركة عامة تهدد الجيش الفرنسى أثنا انشغال نابليون بسوريا.
و هكذا قضد الجنرال لانوس على رأس قوة من 600 جندى إلى الشرقية منبع الثورة، ففر أمير الحج لدمياط و بحث لانوس عن القرى التى شاركت بالثورة و أحرقها لتكون عبرة.

4-المقاومة فى المنوفية و الغربية :
عين نابليون الجنرال زايوتشك قومندانا للمنوفية ، و الجنرال فوجير قومندانا للغربية ، و أصدر تعليماته إليهم أن يتعاونوا على توطيد سلطة فرنسا فى هذه المديريات ، و أن يجردوا الأهالى من السلاح و يصادروا خيولهم و يعتقلوا أعيانهم رهائن ، كل ذلك لإخضاع البلاد و إلقاء الرهبة بها .

و كتب لقومندنا المنوفية يقره على إعدام خمسة من الأهالى فى كل قرية من القرى الثائرة ، و أمره أن تقدم كل قرية جوادين من خير الجياد ، و كل قرية لا تذعن لهذا الأمر و تمضى خمسة أيام على إعلامها به تفرض عليها غرامة ألف ريال ، و قد كان لهذه الأوامر الظالمة أثرها فى تأجيج نار الكراهية ضد الفرنسيين.


مقاومة غمريين و تتا :

سار قومندان الغربية فى قوة من الجند من القاهرة قاصدا منوف فى أغسطس سنة 1798 ، ثم غادرها قاصدا الغربية و اصطدم فى طريقه بمقاومة عنيفة من قريتى غمرين و تتا و هما بلدتان متجاورتان شمالى منوف.
ثار أهل القريتين ، و حملوا السلاح ، و أغلقوا الأبواب فى وجه الجند ، فحاول القائد الفرنسى عبثا أن يكره البلدين على فتح أبوابها فلم يستطع ، و لما أعيته الحيل طلب المدد من قومندان المنوفية الذى كان مرابطا بمنوف ، فأمده بقوة من جنوده ، و تعاونت القوتان على إخضاع القريتين بعدما دافع أهلها دفاعا شديدا ، و اشتد القتال بخاصة فى غمرين ، و اشتبك الأهالى و الجنود فى طرقاتها ، فانهمرت فيها الدماء و غطيت الأرض جثث القتلى ، قال أحد الضباط الفرنسيين :"جائنا المدد ، و تعاونت الكتيبتان على مهاجمة قرية غمرين ، فأخذناها عنوة بعد قتال ساعتين ، و قتلنا من الأهالى من أربعمائة إلى خمسمائة بينهم عدد من النساء كن يهاجمن الجنود ببسالة و إقدام، أما خسائر الفرنسيين فكانت قتيلا واحدا و اثنى عشر جريحا ، و لم تكن عندنا فؤوس،فكان ذلك من أسباب التى أخرتنا عن اقتحام أبواب القرية".

و بالنظر لهذا الموقف كيف كانت مشاركة النساء مع الرجال فى مقاتلة الفرنسيين و دفاعهم، و هذا أبلغ مايذكر عن استبسال شعب فى الدغاع عن كيانه، و أبلغ منه أن الشهادة جاءت من العدو .
بذلك استولى الفرنسيين أولا على غمرين ثم قصدوا إلى تتا فاستولوا عليها، و أضرموا النار فى القريتين عقابا لهم على الثورة .
و نفدت ذخيرة الجنود فى محاربتهم لبلدتى غمريين و تتا فعاد قائدهم إلى منوف ينتظر المدد و بقى هناك ثمانية أيام، و لما كان الفيضان قد بدأ يغرق الطرق فقد نزل بجنوده فى السفن ووصل إلى المحلة الكبرى من طريق ترعة مليج و استقر بها.


فى المحلة الكبرى:


كانت المحلة الكبرى عاصمة الغربية ، و هى يومئذ أكبر بلاد الدلتا فى اتساعها و مركزها الصناعى، و اشتهرت فى ذلك العصر (كشهرتها الأن) بنسيج الأقمشة الحريرية و القطنية. و كان عمال نسيج القطن قبل الحملة الفرنسية يبلغ عددهم فيها ألفى عامل فنزل عددهم مدة الحملة إلى خمسمائة و هذا يدل على تقهقر البلاد من الناحية الأقتصادية أثناء الحملة الفرنسية.
و قد رابط قومندان الغربية فى المحلة الكبرى، ثم انتقل منها خلال الحملة إلى سمنود التى اتخذها الفرنسيون عاصمة لمديرية الغربية و فضولها على المحلة الكبرى لوقوعها على النيل، و سهولة اتخاذها مركزا للمواصلات النيلية و الحركات العسكرية.

مقبرة الجنود الفرنسيين في حملة بونابرت بجوار فم الخليج - القاهرة


الثورة فى طنطا:

كانت طنطا كما هى الآن أكبر بلاد الدلتا من الوجهة التجارية، بلغ عدد سكانها فى ذلك العصر عشرة آلاف نسمة، و ترجع مكانتها إلى مركز تجارى و إلى ضريح السيد أحمد البدوى و مواسمه المعروفة، فكان يزورها سنويا فى أيام المولد الأحمدى نحو مائة ألف زائر من مختلف المدن و الأقطار .
ظهرت أعراض الهياج و الثورة فى طنطا أوائل أكتوبر سنة 1798 و أجمع أهلها عن الامتناع عن دفع الضريبة أو غرامة تفرض عليهم.
و كان نابليون ينظر إلى طنطا كمدينة مقدسة للمسلمين، تلى مكة و المدينة فى الأهمية و يستشعر احترامها محافظة على إحساس الأهالى ، فتحاشى أول الأمر أن يرسل إليها قوة من الجنود كيلا يصطدموا بالأهالى أو يعتدوا على الشعائر الدينية فتثور ثائرتهم، و لكن قومندان الغربية رأى روح الهياج و التمرد تقوى و تشتد، فأرسل إليها كتيبة من الجنود و عهد إليها اعتقال زعماء المدينة وأخذهم رهائن، و كلفها كذلك أن تخضع الأهالى فيما جاورها و فى البلاد الواقعة على طريق الجنود و أخذ الرهائن منها، و كان دعاة الثورة فى القرى يحرضون الأهالى على العصيان.
وصلت الكتيبة تجاه طنطا يوم 7 أكتوبر 1798 و رابط قائدها بجنوده و كلف حاكمها سليم الشوربجى أن ينفذ إليه أربعة من كبراء المدينة يكونون رهائن، فجاء بأربعة من أئمة مسجد السيد البدوى، و رفض أكابر المشايخ أن يحضروا معه ليعطوا القائد الفرنسى موثقا بالمحافظة على السكينة فى طنطا – و كان المولد قائما آنذاك – و قد تجمع فيه خلق كثير من أرجاء البلاد، فلم يكد قائد الكتيبة ينزل الرهائن الأربعة إلى المراكب ليبعث بهم للقاهرة حتى هرعت الجماهير مسلحين بالبنادق و الحراب يصيحون صيحات الغضب و السخط، رافعين الرايات و البيارق ، فلما رآها أهالى البلاد المجاورة أقبلوا من كل حدب و صوب و انضموا إلى الثائرين و فيهم 150 من الفرسان، فاندفعت هذه الجموع على الكتيبة و كادت تستولى على على المراكب التى معها فقابلتها الكتيبة بنار شديدة من البنادق الحديثة، فانهزمت الجموع إلى المدينة ، و عادت غير مرة تهاجمها ثم ترتد إلى داخل البلد ، و رأى قائد الكتيبة أن لا سبيل إلى تعقب الثائرين فى مدينة كبيرة كطنطا لقلة عدد جنوده و افتقاره للمدفعية ، فلزم خطة الدفاع و اقتصر على منع الثائرين أن يحيطوا بجنوده و على الدفاع على مراكبه، و تمكن من إنزال معظم قوته بالسفن و معهم الرهائن، ثم أقلعت سفنه ، و ترك قوة من رجاله على شاطئ الترعة لمنع الثوار أم يلحقوا به، و انسحب الثوار بعد المعركة دامت أربعة ساعات، و قد قرر القائد الفرنسى عدد الثوار بعدة آلاف، و قدر خسائرهم بثلثمائة بين قتيل و جريح، و طلب من نابليون معاقبة أهالى طنطا لأن معظم الثوار كانوا منهم، و ألح فى طلب المدد من الرجال و المدافع لإخضاعهم.
و لكن نابليون جنح وقتا ما إلى الحكمة، و آثر أن يتريث و لا يتمادى فى التقتيل و التنكيل، إذ خشى عاقبة انفجار الهياج فى مدينة لها حرمتها عند الأهلين ، و كان القائد قد نبه نابليون إلى أن الثوار قد استعانوا بالعرب، فكفه نابليون أن يأخذ الرهائن منهم لإخضاعهم، و إن لم يذعنوا فالينكل بهم.
و قد عزم نابليون على تجريد الحملة عليهم بقيادة قائد جديد عينه قومندانا لمديرية المنوفية، و أمره أن يسير إلى العرب فى سنباط حيث يرابطون بها و يحاربهم، و ينتزع منهم الرهائن و الأسلحة.


المقاومة فى عشما:

كان القائد الجديد الجنرال لانوس يهاجم حينئذ قرية عشما و هى تابعة لمركز شبين الكوم لإخضاع زعيمها المشهور فى ذلك العهد بسطوته و شدة بأسه و اسمه "أبو شعير" و قد اتهمه الفرنسيون بعدائه لهم ، و ممالأته على الجنود، فجرد القائد الفرنسى حملة عليه ، و سار ليلة 20 أكتوبر 1798 قاصدا قرية عشما فى كتيبة من الجنود، فوصلها الساعة الثانية بعد منتصف الليل، و فاجأ المخفرين من مخافر التى وضعها أبو شعير حول القرية لحراستها، فتخطاهما حتى وصل إلى مدخل البلد، و هناك التقى بمخفر ثالث أطلق رجاله الرصاص على الفرنسيين ، لكن الجنرال لانوس تمكن من تطويق القرية بالجنود و ماحاصرة منزل أبو شعير الذى وصفع لانوس بأنه قصر محصن تحصينا تاما بالنسبة لحالة البلاد، و قد علم أبو شعير بوصول الفرنسيين فركب فى رهط من رجاله استعدادا للقتال،
و سعى لانوس فى أخذه بالحسنى ، و لكته أجاب بإطلاق الرصاص على الفرنسين ، فأمر الجنرال لانوس رجاله باقتحام أسوار القصر ، و أدرك أبو شعير أنه واقع لامحالة فى أسر الفرنسيين ، فأمر جنوده أن يطلقوا النار على الجنود ليشغلهم عن نفسه و يلوذ بالنجاة.

و قد تمكن من تسلق الأسوار ثم ألقى بنفسه فى الترعة و قطعها سباحة، و ما إن وصل إلى الشاطئ الآخر حتى أصابته رصاصة جندلته فمات شهيدا، و كان بطلا من أبطال المقاومة الأهلية ، و أعتبر الفرنسيين أن القضاء عليه انتصارا كبيرا ، فقد ابتهج الجنرال لانوس ، و أرسل إلى نابليون بتاريخ 23 أكتوبر ينبئه بمصرعه، و يذكر عنه أنه لحق الجيش الفرنسى منه أذى كبير و أنهم وجدوا بمنزله بعض شارات للضباط الفرنسيين، و قد ذكر لانوس عن أبى شعير أنه إذا مشى سار معه ألف و مائتا رجل فى سلاحهم ، و اعترف فى رسالته لنابليون أنه لولا مفاجئته لأبى شعير فى قريته لما استطاع أن يظهر عليه، و لو هو علم بمقدم الفرنسيين و أعد لملاقاتهم ، لأصابهم منه جهد و شدة و أذى، و قد استولى لانوس على ماوجده فى القصر من أسلحة، و منها ثلاثة مدافع و عدد كبير من البنادق .

و كانت الملاحة فى الترع بدأت تتعطل لنقص مياه النيل، على حين أن المواصلات فى البر متعذرة ، فتأخرة الحملة التى كلف بها الجنرال لانوس إلى أوائل نوفمبر حتى جاءه المدد من القاهرة.

و لما وصله المدد سار بجنوده و أوقع بكثير من القرى المحازية للنيل بحجة مهاجمتها للسفن الفرنسية على فرع رشيد، و بلغ طنطا دون أن يلقى مقاومة، و أمكنه أن يحصل الضرائب و شتت قوات العرب التى كانت تشد أزر الثوار ، لكنه لم يستطع أن يقهرها أو يتغلب عليها ، ثم عاد إلى منوف.

ويذكر الجبرتى:" سافروا الى جهة بحرى بسبب ان بعض البلاد قام على عسكر الفرنساوية وقت الفتنة وقاتلوهم وضربوا ايضا مركبين بها عدة من عساكرهم فحاربوهم وقاتلوهم فلما ذهب اولئك المغاربة سكنوا الفتنة وضربوا عشما وقتلوا كبيرها المسمى بأبن شعير و نهبوا داره ومتاعه وماله وبهائمه وكان شيئا كثيرا جدا واحضروا اخوته وأولاده وقتلوهم ولم يتركوا منهم سوى ولد صغير جعلوه شيخا عوضا عن ابيهم وسكن العسكر المغربي بدار عند باب سعادة ورتبوا له من الفرنسيس جماعة يأتون اليهم في كل يوم ويدربوهم على كيفية حربهم وقانونهم ومعنى أشاراتهم في مصافاتهم فيقف المعلم والمتعلمون مقابلون له صفا وبأيديهم بنادقهم فيشير اليهم بألفاظ بلغتهم كان يقول مردبوش فيرفعونها قابضين بأكفهم على أسافلها ثم يقول مرش فيمشون صفوفا الى غير ذلك وفيه سافر برطلمين الى ناحية سرياقوس ومعه جملة من العسكر بسبب الناس الفارين الى جهة الشرق فلم يدركهم وأخذ من في البلاد وعسف في تحصيها ورجع بعد أيام "



5- فى المنصورة:

على أثر تعيين الجنرال فيال قومندانا لمديريتى المنصورة و دمياط فى أوائل أغسطس 1798 مضى بفرقته إلى مديريتين لإخضاعهما. فقصد أولا المنصورة ثم احتلها و ترك فيها حامية مكونة من 120 جنديا و اتجه إلى الشمال . لكن أهل المدينة لم يحتملوا منظر العدو بينهم فثاروا على معسكر هذه الحامية فى هجوم خاطف، فبينما كان الجنود فى معسكرهم يوم 10 أغسطس 1798 دخلت المدينة جموع كبيرة من أهالى البلاد المجاورة ، و كان اليوم يوم السوق العامة ، فاختلطوا بأهل المدينة كلها بالثورة ،رجالا و نساء ، و كان النساء يحرضن أزواجهن على أن يثوروا بالفرنسين، و لما شعر الجنود بالخطر امتنعوا فى معسكرهم فحاصره الثائرون و شرعوا فى دكه و أشعلوا فيه النار، فاضطر الجنود إلى إخلائه هاربين و إلى وانحدروا إلى السفن قاصدين الفرار، و لكن الجموع تكاثرت عليهم و أبى رجال السفن أن يحملوهم، فالتجأوا إلى البر و قصدوا إلى دمياط، و لكن الثوار أخذوا عليهم الطريق ثم أبادوهم عن آخرهم ، إلا امرأة أحد الضباط و ابنتها أبقوا عليهم، و فى المراجع الفرنسية أن الفتاة قد اشتراها شيخ العرب "أبو قورة" بميت العامل(مركز أجا) و تزوج بها فلبثت عنده حتى مات عنها سنة 1808 فى عهد محمد على،و بقيت حافظة على عهده قائمة على تربية أولادها منه .

أشعلت واقعة المنصورة نار الثورة و الهياج فى البلاد المجاورة ، ثم وصل الجنرال دوجا وجنوده جنوب المنصورة يومى 17 و 18 أغسطس سنة 1798 الذى عينه نابليون قومندانا لمديرية المنصورة، فلما علم عند وصوله بما حل بجنود الحامية توقع أهل المدينة انتقاما شديدا،فكتب الأعيان رسالة إلى ديوان القاهرة يبرؤون من الاعتداء على الجنود ينسبون ذلك إلى الفلاحين و العرب الذين اقتحموا المدينة يوم الواقعة و ذهب قاضى المنصورة خصيصا إلى القاهرة ليدافع عن مسلك سكان المدينة و قد علم نابليون بنبأ الحادثة و جائته رسالة أعيان المنصورة التى كتبوها للديوان، فبعث إلى الجنرال دوجا منع عقاب أهلى المنصورة عقابا شديدا ، و يأمره أن يقتل تنسعة أو عشرة من أعيانها . و كان الجنرال رجلا حكيما فحقق فى المعتدين و منهم رجلان كانت لهما شهرة فى تلك الجهات و هما الأمير مصطفى و على العديسى ،فاكتفى الجنرال دوجا بالحكم على اثنين من أهالى المنصورة بالإعدام ، لثبوت اشتراكهما فى القتل ، و أنفذ الحكم فيهما و طافوا برأسيهما فى شوارع المدينة عبرة و إرهابا. و أهذ الجنرال دوجا يتأهب لتعقب المعتدين فى بلاد البحر الصغير و القبض على الأمير مصطفى و على العديسى. و تجريد حملة عسكرية لمعاقبة القرى التى اشتركت فى الاعتداء على الجنود.

و طلب نابليون إلى الجنرال دوجا إخضاع بلاد مديرية المنصورة ، و أخذ رهائن من كل قرية اشتراك أهلها فى الاعتداء على الجنود، ثم إحراق القرى التى يرى أنها كانت أبلغ فى الاعتداء، و أمر نابليون بفرض غرامة ثلاثة آلاف ريال على أعيان المنصورة عقابا لهم على سوء صنيعهم، و فرض ألفى ريال على القرى التى اعتدت على الجنود.

و لقى الفرنسيون عناء كبيرا فى إخضاع مديرية المنصورة، فقد اشتد فيها المقاومة و امتنع كثير من البلاد عن دفع الضرائب. و كان محصلوا الأموال الأميرية إذا ذهبوا لقرية لجباية الضرائب أو مصادرة أملاك يقابلون بالرصاص رميا ، أو بالعصى ضربا ، و فى بعض الأحيان كانوا يصطحبون بعض الخفراء لحراستهم ، فلا يعصمهم ذلك أن يلقوا نفس المقابلة، و عطل الفيضان حركات نقل الجنود فى البر، فساعد هذا العامل على فيضان روح الثورة فى القرى، و اضطر الجنرال دوجا إلى تأخير ماعهد إليه من إخضاع ذلك الإقليم و معاقبة القرى التى ثارت فى وجه الجيش أو التى اشتركت فى قتل الحامية الفرنسية بالمنصورة. و اشتدت الاضطرابات فى منطقة ميت غمر و دنديط و ميت الفرماوى.



الحملة على البحر الصغير:
اهتم نابليون بإخضاع بلاد البحر الصغير، الموجودة بين المنصورة و بحيرة المنزلة، و ارتياد الجهات الموصلة للبحيرة، و كان يرمى من جهة لإخضاع تلك البلاد، و من جهة أخرى إلى تأمين المواصلات بين دمياط و المنصورة و الصالحية و بلبيس حتى يطمئن لحدود مصر الشرقية.


فجرد حملة عسكرية لإخضاع البحر الصغير، و معاقبة القرى الثائرة فى هذا الإقليم، و عهد إلى هذه الحملة إلى ماعهد به إليها معاقبة بلدتى (منية محلة دمنة و القباب الكبرى) الواقعين على بحر أشمون أذ جاهر أهلهما بالعصيان و الامتناع عن دفع الضرائب و الغرامات التى فرضت عليهم.




6-فى دمياط:
امتدت شعلة الثورة إلى دمياط فى أوائل سبتمبر 1798 و كان حسن طوبار زعيم إقليم المنزلة، سار بسفنه لدمياط ليشارك مع أهلها فى الدفاع ضد الاحتلال الفرنسى. و كانت المعارك ضارية فى المدينة و القرى المحيطة بها، فقد تمكن أهالى عزبة البرج من إفناء الحامية الفرنسية المعسكرة بها. ثم بدأ الجنرال فيال هجومه و تغلب على الثوار و ردهم على أعقابهم، فانسحبوا إلى قرية " الشعراء" و هى جنوب دمياط، فتقدم الفرنسيون نحوها و كان يدافه عنها نحو 1500 من الثوار، فاقتحم الجنود القرية و استولوا عليها و نهبوا و أضرموا النار فيها، و خسر الثوار فى المعركة نحو خمسين قتيلا و خسر الفرنسيون إثنى عشر قتيلا و ثلاثين جريحا. ثم استمرت حملات الفرنسيين التأديبية حتى أصبحت مدينة دمياط أشبه بسوق أو مولد يبيع فيه الفرنسيون مانهبوه و سلبوه، فكانوا يعرضون المواشى و الطيور و الثيران ...إلخ .

و تفاقمت الثورة فى البلاد الواقعة بين المنصورة و دمياط، و تعددت حوادث مهاجمة الثوار للسفن الفرنسية المقلة للجنود فى النيل، فأمر نابليون بتجريد قوة برية بحرية مزودة بالمداع للسيطرة على بحيرة المنزلة و القضاء على نفوذ حسن طوبار. و لكن بحيرة المنزلة كانت مليئة بمئات الجزر مماسهل على الثوار المناوة و الأختفاء. و قد فاجأوا القوة البحرية الفرنسية مما اضطرها للتراجع حتى عادت لدمياط، لكنهم احتلوا بلدتى المنزلة و المطرية مماجعل استمرار المقاومة فى الجزر بغير قواعد برية أمرا متعذرا، فترك حسن طوبار المنزلة إلى غزة.


معركة الجمالية


واصلت الحملة سيرها حتى وصلت (برنبال الجديدة) ثم غادرتها ووصلت بحرا تجاه الجماليةعلى البحر الصغير، فوحلت السفن الفرنسية فى بحر أشمون من قلة المياه، و انتهزها الأهالى فهاجموا السفن الفرنسية و كانوا يتبعونها من بعيد، و اشترك فى هذا الهجوم أهالى الجمالية فأطلقوا النار على السفن و أمطروها وابلا من الحجارة من على اسوار بلدتهم، فأمر قائد الحملة بإنزال الجنود إلى البر لرد الهجوم، و امكنه أن يفرق الجموع التى أحدقت بالقوات الفرنسية، و لكنه بعد قتال أربع ساعات انسحب من الموقع الذى نزل به و رأى أنه لايستطيع الثباتبه و لا متابعة السير فى بحر أشمون، فأضرم النار فى الجمالية و عاد أدراجه إلى المنصورة و من معه من جرحى و قتلى، و كانت معركة الجمالية ذات شأن خطير، و قد أشاد جنود الحملة ببسالة و شجاعة المصريين المقاومين.


الخلاصة


فى أواخر شهر مايو 1799 و فى منطقة ميت غمر احتشد عدد كبير من الثوار وانضم إليهم جماعة من المماليك و هجموا يوم 30 مايو على سفينة حربية فرنسية قادمة بالنيل من سمنود فاستولوا عليها و غنموا مابها
و استمرت مقاومة الشعب المصرى فى الوجه البحرى للاحتلال الفرنسى بالرغم من عدم تكافؤ الفرص و لم تهدأ إلا برحيل هذا الاحتلال عن مصر.

ثانيا :المقاومة فى الوجه القبلى:
فر مراد بك إلى الصعيد منهزما بعد موقعة الأهرام مع الجنود الفرنسيين، و اتجه بفلول جيشه إلى الصعيد ليكون بعيدا عن هجمات نابليون الذى عزم على إخضاع الوجه القبلى. فقد وجد نابليون أن فرارقوة مراد بك إلى الصعيد تعدد سلطة الحكومة المركزية، و ستكون نواة لمقاومة شعبية ، و تعطل الملاحة فى النيل عندما بدأت تمنع سفن الغلال من الإبحار للقاهرة. لذلك عين الجنرال ديزيه قائدا للحملة على الصعيد و مانت مؤلفة من نحو خمسة آلاف جندى من الفرسان و المشاة و المدفعية.
و قبل أن تسير الحملة أراد مراد بك أن يذخر جنوده و يمنع الحرب بإقطاع مراد بك مديريات جرجا و قنا و أسوان على ألاتزيد فرسانه عن 500ألى 600 فارس ، و أن يؤدى الضرائب للجيش الفرنسى. و ظن مراد بك أن نابليون فى موقف حرج عندما عرض عليه هذا الطلب فرفضه، و كان ذلك من حسن حظ الشعب المصرى لأنه إذا تحالف الاستعمال مع الاستغلال لكانت الفريسة هى الشعب المصرى.
و فى ليلة 25-26 أغسطس 1798 بدأ الجنرال ديزيه زحفه من الجيزة مطاردا مراد بك إلى إقليم البهنسا و الفيوم ثم أسيوط و جرجا مخترقا أطلال دندرة الكرنك و الأقصر الضخمة إلى أسوان و فيلة. ز مراد بك ينطلق بأقصى سرعته تارة هاربا و تارة منقلبا ليهاجم الفرنسييس، يختفى مرة فى واحة الصحراء و يعود مرة أخرى للظهور من خلفهم، ينكمش جيشه إلى بضع مئات من الأوفيائ و لكنه لايلبث أن يجمع الأحلاف و الجيوش الجديدة ثم ينتهى به المطاف حيث بدأ.
وصلت حملة ديزيه إلى بنى سويف يوم 31أغسطس و احتلنها دون مقاومة، ثم تحركت الحملة صاعدة فى النيل ووصلت إلى المنيا فى 9 سبتمبر، ثم أسيزط فى 14 سبتمبر و فى 7 أكتوبر وصل ديزيه بلدة سدمنت حيث جمع مراد بك نحو 4000إلى 5000 فارس من المماليك و العربان، و دارت معركة من أشد المعارك هولا كدت تسحق بها قوات ديزيه لولا قوة المدفعية الفرنسية. و قد انتصر الفرنسيون و قتل منهم أريعة و أربعون و جرح مائة، و قدرت خسائر المماليك بأربعمائة و تقهقر مراد بك إلى الفيوم.
و تغيرت الحرب بعد هذه المعركة فصارت مقاومة محلية تتجدد تبعا للأحول و المفاجآت.و كان هذا النوع من المقاومة اشد خطرا على الجيش الفرنسى من المعارك المنظمة خاصة و أن هناك فرقا بين الصعيد و الدلتا، إذ كان يسهل امداد القوات المحاربة فى الدلتا لسهولة التنقل فيها أم الصعيد فلم يكن الإمداد سهلا و طول المسافات كان فى صالح المدافعين و منهكا لقوى المهاجمين. و ظل الزحف مستمرا حتى أسوان دون أن يقدر الجنرال ديزيه على إخضاع الأهالى، فما وجدا إنسان قبل السلطة الفرنسية أو رضى بالاحتلال، و المل يحمل سلاحه و الكل فى معركة.
1- بين اسيوط وجرجا


واجه الفرنسيين فى الصعيد مابين جرجا و أسيوط ثورة واسعة النطاق بعيدة المدى. و كلف الجنرال دافو لقمع هذه الثورة، فقام من جرجا ووصل إلى سوهاج يوم 3يناير 1799 حيث كانت تحتشد قوة من الثائرين تقدر بأربعة آلاف من الفلاحين المسلحين بالبنادق و الحراب يشد أزره سبعمائة من الفرسان. و نشب القتال بين الفريقين و لكن الأهالى على كثرة عددهم لم يكونوا معتادين على خوض معارك حديثة، فأصلتهم فرقة الفرسان نارا حامية تراجعوا أممامها تاركين ثمانين من القتلى. و مع ذلك لم تنكسر شوكة الثائرين رغم هزيمتهم مرة ثانية فى طهطا 8 يناير حيث خسروا 150 من الفرسان و ثمانيين من المشاة، و انتقم الفرنسيون انتقاما فظيعا من القرى التى أطلقت عليهم النار فقتلوا من أهلها حمسمائة رجل و احرقوها.
و فى 22 يناير من نفس السنة و قعت معركة سمهود بين جيش مراد بك الذى يتكون من 1500 مملوك و الباقون من الأهلى الذين انضموا إليه، و يقدر نابليون عددهم فى مذكراته بسيعة آلاف من الفرسان المصريين و ثلاثة آلاف من المشاة و ألفين من عرب ينبع و جدة بقيادة الشريف حسن، فى حين كان الجيش الفرنسى و عدده خمسة آلاف مزودين بالمدافع و البنادق الحربية. و هزم مراد بك و فر المماليك إلى الصحراء، و الفرنسيون يجدون فى مطاردتهم فلما وصلوا أسوان كان مراد قد أوغل فى أعماق السودان.



2-فى أسوان:

فى أول فبراير من نفس السنة احتل الفرنسيون أسوان، و بذلك تم لهم احتلال الصعيد بأكلمله. و عندما أرادوا أن يعبروا النيل إلى جزيرة فيلة فى مراكب الأهالى لم يقبل أحد منهم أن يسلك مركبه . فلقى الفرنسيين مقاومة شديدة و حمل الأهالى أسلحتهم و صاحوا صيحات القتال. و يوم 20 من نفس الشهر احتل الفرنسيين الجزيرة، و فى 21 احتلوا الجزر الأخرى المجاورة لها و التى شارك أهلها فى الثورة و أخذ الفرنسيين يحصنون أسوان.
و لا جدال أن الشعب المصرى كان يعلم أنه يخوض معركة غير متكافئة أمام المدافع و القوة العسكرية المتفوقة. و مع هذا لم يخطر ببال أحدا الفرار و لا فكر فى الاستسلام، بل احتقروا المماليك الذين كانوا يفرون دون أن يشعروا إحساس المواطن الذى يدافع عن شرفه و شرف قومه، و لعل الدفاع القومى رغم عدم ظهوره بالمعنى الواضح كان يتكون فى أعماق الشعب المصرى العربة و هو يحارب الاحتلال دون ان يكترث للماليك الذين يختلف معهم فى القومية.


3-فى قنا:

عندما كان نابليون منهمكا فى الحملة على سوريا،و كان الجنرال ديزيه مقتفيا أثر المماليك فى الصعيد عاكست الرياح الأسطول الفرنسى قرب بلدة البارود، و كانت مؤلفة من إثنى عشر سفينة مسبحة بالمدافع الضخمة و محملة بالمؤن و الذخائر و الأمتعة و خزينة الحرب و آلات الموسيقى ، و تقل حوالى ثلثمائة جندى و مائتى ملاح. فهاجم أهلى قنا الأسطول الفرنسى فى 3 مارس 1799، و نزل عدد كبير منهم إلى المياه سابحين نحو السفن . و قد أطلقت السفن مدافعها على المهاجمين و مات كثيرون دون أن يوقف ذلك محاولة الوصول إلى السفينة "إيطاليا" ، ووجد قائدها "سوراندى" أنه مغلوب على أمره فأمر بحارته و جنوده القفز فى الماء و أشعل النار فى مخزن البارود فى السفينة فنسفت إلى شظايا أصابت الكثيرين، و دارت معركة مائية بالأيدى و الخناجر. و كذلك صنع بقية رجال السفن الفرنسية المرافقة بعد ان رأوا عنف الهجوم. و هلك قائد الفرنسيين فى هذه المعركة و جميع جنوده و عددهم 500 و كانت هذه أكير خسارة منيت بها القوات الفرنسية فى معركة واحدة.
و روعة التصميم الذى أبداه أبناء قنا فى الهجوم الجرىء لا مثيل له فى تاريخ الفدائية. و لقد غنم الأهالى كثيرا من الذخائر و بعض المدافع التى كانت تحملها السفن المتطورة و الخزينة و مافيها من مال .
و فى أبنود ظهرت هذه الغنائم التى شدت من عزم الشعب على المقاومة، فقد دارت مع الفرنسيين معركة رهيبة استمرت ثلاثة أيام لم تنته إلا بإحراق البلدة إحراقا تاما حتى تحولت إلى تراب. و على الرغم من المئات العديدة التى خسرها الأهالى فقد أثخنوا الجيش الفرنسى بجراح مؤلمة، إذ قدرت خسائره ب 169 قتيل و جريح.


و هكذا ظل الجيش الفرنسى يطارد قوات شتى لا عداد لها و لا يكاد يتغلب عليها حتى تتجمع و تعود ثانية للقتال فى ميدان واسع يمتد من الجيزة شمالا إلى أسوان جنوبا و من القصير شرقا إلى واحات الصحراء غربا دون إقرار السلطة الفرنسية لها.
و هكذا صح ماذكره قواد نابليون فقد تحولت حرب الصعيد إلى حرب حقيقية، فكتب ديزيه لنابليون فى 17 مارس 1799 يقول:
"إنى لا أكتمكم الحقيقة... إننا لن نكون سادة هذه البلاد، لأننا إذا أخلينا بلدة لحظة من الجنود عادت لحالتها القديمة."
...تابع القراءة

الأربعاء، 2 يناير 2013

مجاعات ...على ارض مصر

يقول المقريزي:
(وكان الوباء غالبا ما يبدأ في المدن المزدحمة بالسكان خصوصا مدينة الفسطاط لسوء أحوالها الاجتماعية والصحية.. فقد كانت الفسطاط مدينة مزدحمة بالسكان أشد الازدحام وكانت شوارعها ضيقة وترابها تثيره الأرجل فتتكدر منه أرجاؤها ويسوء بسببه هواؤها فيجعلها هذا الهواء السيئ المترب عرضة للوباء الَذي يتفشى بين الناس في سرعة بسبب ضيق الشوارع واكتظاظ المدينة بالناس لذلك كان المياسير من أهل المدينة يهربون إلى الريف من الوباء إذا حل بالفسطاط) 


بعض الأوبئة والمجاعات التي وقعت بمصر على مدار تاريخها الإسلامي:

1- عصر الولاة: (21 - 254هـ/ 641 - 868م):
كان الناس يهربون من المدن عند وقوع الوباء

يقول ساويرس بن المقفع(9) في كتابه (تاريخ البطاركة):
(حدث سنة 28هـ  في ولاية عبد الله بن أبي السرح غلاء لم يحدث مثله من زمن قلوديوس وإلى أيامه فسار كل من في الصعيد إلى الريف في طلب الغلة.. وكان الناس مطاريح في الأزقة والأسواق أمواتا مثل السمك المدمس على برك الماء.. وكان يموت في كل يوم عدد كبير) 

يقول المقريزي:
(في سنة 66 هـ وقع الطاعون بمصر ومات فيه خلق عظيم..
وفي سنة 70 هـ وقع طاعون آخر ووباء بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان فخرج عبد العزيز من الفسطاط هاربا إلى حلوان التي أعجبته فاتخذها سكنا وجعل بها الحرس والشرط والأعوان..
وإذا كان عبد العزيز قد هرب من وباء فقد كان قدره أن يلقى حتفه في وباء آخر نزل بالفسطاط أيضا سنة 85هـ.. وفي سنة 87 هـ غار النيل فلم يبق منه شيء..وعم الغلاء..وتكرر ذلك بعد تسعة أعوام في عهد عبد الله بن عبد الملك بن مروان وكانت شدة عظيمة فتشاءم الناس من ابن عبد الملك وسموه مكيسا وانتهى الأمر برحيل عبد الله عن مصر في صفر من العام التالي تلاحقه اللعنات وهجو الشعراء..
وفي سنة 90هـ في ولاية قرة بن شريك نزل بالبلاد وباء عظيم وصار الموتى كل يوم لا يعرف عددهم من كثرتهم..
وفي سنة 96 هـ تولى خراج مصر أسامة بن زيد التنوخي وكتب إليه الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك أن:
(احلب الدر حتى ينقطع ثم احلب الدم حتى ينصرم)
فأصابت أهل مصر شدة عظيمة وحدث غلاء عظيم مات بسببه خلق كثير أكثر مما يموت في الوباء..
وفي سنة 105 في ولاية محمد بن عبد الملك من قبل أخيه هشام وقع بمصر وباء شديد فهرب منه محمد بن عبد الملك إلى الصعيد لكنه عاد بعد بضعة أيام إلى الفسطاط ليخرج عن مصر نهائيا لم يلها إلا نحوا من شهر..
وفي سنة 108 هـ في ولاية حفص بن الوليد على مصر من قبل هشام بن عبد الملك حدث بمصر قحط شديد فاستسقى حفص بالناس..فخرجوا لصلاة الاستسقاء مسلميهم وكتابييهم فسقوا بفضل الله..
وفي سنة 133 هـ في ولاية أبي عون أول عصر العباسيين لم يصل النيل إلى حد الوفاء فصلى الناس صلاة الاستسقاء وخرج في ذلك المسلمون واليهود والنصارى من أهل الفسطاط والجيزة.. وتبع الغلاء وباء شديد فهرب أبو عون إلى دمياط خوفا من الوباء..)
………………………………………………….

2-الدولة الطولونية: (254هـ / 868م - 292هـ 904م)
عصر الطولونيين كان عصر رخاء ...

والجدير بالذكر أن عصر الطولونيين بمصر كان عصر رخاء اقتصادي لم تشهد مصر خلاله أي أزمات أو قحوط أو مجاعات نتيجة حسن تدبير أحمد بن طولون ومن أتى بعده وإصلاحاتهم السياسية والاقتصادية..
ومما يذكر في ذلك العصر من الملمات هو تعرض مصر لزلزال شديد..وعلى ندرة الزلازل بمصر إلا أنها كانت شديدة الوطء..يقول ابن بطريق(10)في كتابه (نظم الجوهر) المشهور ب(تاريخ ابن بطريق):
(وفي عهد خمارويه في سنة 273 هـ وقعت بمصر رجفة عظيمة سقطت فيها دور كثيرة ومات خلق كثير..وظن الناس بها زلزلة الساعة.. فاضطربوا وعم البلاء والغلاء..حتى بلغ سعر مُد القمح(13) دينارا..وانعدمت الأقوات حتى أكل الناس بذر الكتان.. فمات خلق كثير حتى امتلأت أسواق مصر موتى وكانوا يحملونهم على الجمال على كل جمل ثمانية موتى ويحفرون لهم حفرة عظيمة ويلقونهم فيها)..
وكذلك ما حدث عام 290 هـ من القحط الناتج من عدم وصول منسوب الفيضان لحد الكفاية وانقطاع قطر السماء..فامتد القحط طيلة 3 سنوات عجفاء انتهت بسقوط الدولة الطولونية عام 292 هـ وعودة مصر تحت الحكم العباسي من جديد..وبقيت كذلك لثلاثة عقود..
يقول ابن عذارى المراكشي(11)في كتابه (البيان المغرب في اختصار تاريخ ملوك الأندلس والمغرب):
(حدث سنة 307 هـ في ولاية زكا الأعور والي مصر من قبل الخليفة العباسي المقتدر بالله أن غلت الأسعار بمصر ووقع الوباء في الناس وجلا كثير منهم وكانوا في هربهم من الوباء يحملونه معهم حينما حلوا فيفشى وينتشر فعم الوباء طول البلاد وعرضها حتى أفنى ثلثي السكان..
وخلال ذلك لم يحدث قحط بمصر سوى بسبب ثورة محمد بن علي الخليجي على فساد الوالي العباسي محمد بن سليمان الكاتب وتنكيله بآل طولون..ونتج عن هذه الثورة بلاء وقحط شديد..وصارت البلاد يبابا..
ثم تولى أمر مصر الوالي هلال بن بدر (309 - 311 هـ) فاضطربت أحوال مصر وكثر القتل والنهب في الناس وفشا الفساد وقطع الطريق بالديار المصرية فعظم ذلك على الرعية وضعف هلال عن إصلاح أحوال مصر فصار كلما سد أمرا انخرق عليه آخر فكانت أيامه على مصر شر أيام فلما تفاقم الأمر عزله الخليفة المقتدر بالله
وولى غيره..وبقي الحال هكذا إلى أن نجح محمد بن طغج الإخشيدي في دخول الفسطاط في سنة 323هـ/ 935م..وأسس الدولة الإخشيدية..)
.................................................................................................

2- الدولة الإخشيدية:( 323هـ/ 935م- 358هـ/ 960م)
سنة 341 هـ تسببت الفئران بالمجاعة

كانت البداية مع الجراد.. يقول ابن بطريق:
(في سنة 327هـ هجم على مصر جراد لا توصف كثرته حتى منع شعاع الشمس أن يقع على الأرض فأتى على الكروم والفواكه والنخل حتى خربت البساتين والحقول..فعمت المجاعة وخرج الناس في طلبه ليأكلوه حتى أفنوه..
وفي سنة 347هـ شهدت مصر جرادا طبق الدنيا فأتى على جميع الغلات والأشجار..ونفقت الماشية وعمت مجاعة أشد وطئا من الأولى..وما أفاد الناس ما أكلوه منه إذ عم الموت في كل مكان..فأكل الناس حيوانات الشوارع ثم أكلوا جيف الماشية)
ثم حدث اجتياح الفئران لمصر..يقول المقريزي:
(وقع سنة 341 هـ وباء الفأر وأهلك الغلات والكروم..وحدثت مجاعة شديدة فاضطر الناس لأكل الكلاب والقطط ثم عمدوا إلى الفئران..ويقول بعض الثقات أن اصطياد الفئران كان سهلا لفرط ضخامتها فكان الفأر يعادل في حجمه الأرنب..)
ثم حدث حريق القاهرة الشهير..قال ابن عذارى:
(وكانت المدن الكبيرة تتعرض لحرائق كبيرة ففي سنة 343هـ في عهد كافور الإخشيدي وقع حريق كبير بالفسطاط في سوق البزازين وقيسارية العسل ودخل الليل والنار على حالها لم تتغير وبات الناس على خطر
عظيم فركب كافور وأمر بالنداء: (من جاء بقربة أو كوز ماء فله درهم)
فكان مبلغ ما صرفه عشرة آلاف درهم ونيف.. وكان جملة ما احترق غير البضائع والأقمشة ستة عشر ألف دار)
ثم واجهت مصر أخطر أزماتها الاقتصادية على مر تاريخها خلال حكم الدولة الإخشيدية..استمرت تلك الأزمة تسع سنوات كاملة حيث بدأت عام 352هـ ويصفها المقريزي بقوله:
(ثم وقع الغلاء في الدولة الإخشيدية أيضا واستمر تسع سنين متتابعة وابتداء في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة والأمير إذ ذاك علي بن الإخشيد وتدبير الأمور إلى أبي المسك كافور الإخشيدي وكان سبب الغلاء أن ماء النيل انتهت زيادته إلى خمسة عشر ذراعا وأربع أصابع فنزع السعر بعد رخص فما كان بدينار واحد صار بثلاثة دنانير وعزَ الخبز فلم يوجد وزاد الغلاء حتى بلغ القمح كل ويبتين(14) بدينار وقصر مد النيل في سنة ثلاث وخمسين فلم يبلغ سوى خمسة عشر ذراعا وأربعة أصابع واضطرب فزاد مرة ونقص أخرى حتى صار في النصف من شهر بابَه إلى قريب من ثلاثة عشر ذراعا ثم زاد قليلا وانحط سريعا فعظم الغلاء وانتقضت الأعمال لكثرة الفتن ونهبت الضياع والغلات وماج الناس في مصر بسبب السعر فدخلوا الجامع العتيق بالفسطاط في يوم جمعة وازدحموا عند المحراب فمات رجل وامرأة في الزحام ولم تصل الجمعة يومئذ وتمادى الغلاء إلى سنة 355هـ وتعرض الصعيد لهجمات النوبة التي وصلت حتى أخميم..وفسد ما بين أبي الحسن علي بن الإخشيد صاحب مصر وبين كافور الإخشيدي مدبر مملكته حتى منع كافور الناس من الاجتماع به ولم يحسم الخلاف إلا وفاة أبي الحسن علي معتلا في سنة 355 هـ فانفرد كافور بحكم مصر..
وفي سنة خمس وخمسين كان مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وأصابع وقصر مده وقلت جريته وفي سنة ست وخمسين لم يبلغ النيل سوى اثني عشر ذراعا وأصابع ولم يقع مثل ذلك في الملة الإسلامية وكان على إمرة مصر حينئذ كافور الإخشيدي فعظم الأمر من شدة الغلاء..
ثم مات كافور وتولى أبو الفوارس أحمد بن علي الإخشيدي وهو ابن 11 سنة..
واضطربت أحوال البلاد اضطرابا شديدا فكثرت الفتن والحروب بين الجند والأمراء وراح ضحيتها خلق كثير وانتهبت الأسواق وأشعلت الحرائق وتضاعف السعر حتى بيع إردب(15) القمح بستة دنانير وأفرط الغلاء حتى أطلق عليه الغلاء العظيم..
وأكل الناس الجيف والكلاب.. وكانوا يسقطون موتى من الجوع واقترن بذلك وباء عظيم فكثر الموت ولم يلحق دفن الموتى فكان يحفر لهم حفر ويرمى فيها عدد كثير ويردم عليهم التراب من غير صلاة ولا غسل ولا كفن
واختلف العسكر فلحق الكثير منهم بالحسن بن عبد الله بن طغج وهو يومئذ بالرملة وكاتب الكثير منهم المعز لدين الله الفاطمي وعظم الإرجاف بمسير القرامطة إلى مصر وتواترت الأخبار بمجيء عساكر المعز من المغرب إلى أن دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ودخل القائد جوهر الصقلي بعساكر الإمام المعز لدين الله..
وبنى القاهرة المعزية وكان مما نظر فيه أمر الأسعار.. فضرب جماعة من الطحانين وطيف بهم.. وجمع سماسرة الغلات بمكان واحد وتقدم ألا تباع الغلات إلا هناك فقط.. ولم يجعل لمكان البيع غير طريق واحد فكان لا يخرج قدح قمح(16) إلا ويقف عليه سليمان بن عزة المحتسب واستمر الغلاء إلى سنة ستين فاشتد فيها الوباء وفشت الأمراض وكثر الموت حتى عجز الناس عن تكفين الأموات ودفنهم فكان من مات يطرح في النيل..
فلما دخلت سنة إحدى وستين انحل السعر فيها وأخصبت الأرض وحصل الرخاء..وبيع كل تسعة أقداح من القمح بدينار)..
………………………………………………..

4-الدولة الفاطمية: 362هـ / 973م - 576هـ / 1171م
القاهرة القديمة

كان دخول جوهر الصقلي مصر عام 358هـ في أوج الأزمة الاقتصادية التي أطاحت بالإخشيديين وكانت الأحوال في الحضيض..وبرز ربما لأول مرة في التاريخ الإسلامي تزييف النقود!!..فقد تم تزييف الدينار!!..
يقول المقريزي:
(في سنة 359هـ ظهر في مصر ما يسمى بالدينار الأبيض (بمعنى المزيف) وكانت قيمته عشرة دراهم ولم تستطع السلطات منع تداوله فقرر جوهر الصقلي خفض قيمته ليكون بستة دراهم فعم البلاء وافتقر خلق كثير..
ومما يذكر أيضا هو وقوع وباء عظيم بمصر عام 360هـ..فما كادت مصر تستفيق من الأزمة الاقتصادية التي أودت بالإخشيديين حتى ألم بها الوباء..يقول المقريزي:
(في المحرم من سنة 360هـ اشتد الوباء والأمراض بالقاهرة..وبلغ مد الوباء درجة كبيرة من العنف فكثر الموت حتى عجز الناس عن تكفين الأموات ودفنهم فكانوا يطرحون موتاهم في النيل ولا شك أن اقتراف الناس لتلك الخطيئة في حق موتاهم كان يعود عليهم بمزيد من البلاء فقد أدى ذلك إلى انتقال العدوى وتفشي الوباء..وفني نصف سكان مصر..
أما الدولة الفاطمية ذاتها فقد كانت في بدايتها بداية خير ورخاء لمصر لحنكة المعز لدين الله ومن بعده ابنه العزيز بالله في تصريف أحوال الرعية ووضع الإصلاحات الاقتصادية..ومرت فترة حكمهما دونما أزمات بل عم الرخاء البلاد..ومما يذكر أنه في عهد العزيز بالله أعقب الغلاء سنة 372هـ وباء شديد بمصر أفنى خلقا كثيرا لا يحصى عددهم واستمر هذا الوباء متفشيا حتى العام التالي..
ثم تولى الحاكم بأمر الله الحكم وهو ابن 11سنة ونصف..
وحدث في عهده العجب العجاب لاستخفاف الجنود به من ناحية ومحاولته إثبات صرامته من ناحية أخرى..
من ذلك أنه نهى عن بيع الفقاع -شراب من الشعير- والملوخية والترمس والسمك الذي لا قشر له وضرب عنق من فعل ذلك.. ونهى عن بيع الزبيب ونهى التجار عن حمله إلى مصر ثم جمع كمية كبيرة أحرقها على شاطئ النيل وأنفق على إحراقها فقط دون قيمتها خمسمائة دينار ومنع بيع العنب وقطع الكروم وأحرق ما كان في المخازن من جرار العسل فكسرت وقلبت في النيل حتى امتلأ بها ورفع المكوس على الغلات ثم أعادها ثم رفع بعضها وأبقى البعض الآخر..وتلاعبت الحكومة بالناس فصكت دراهم ودنانير جديدة وأمرت الناس باستبدالها بالقديمة ما أدى لتربح الحكومة وخسارة الناس ما يعادل 60% من القيمة الفعلية لأموالهم..كما اشتغل الوزراء بتجارة الغلال وتلاعبوا في الأسعار لتحقيق أعلى ربح..وأعقب الغلاء وباء في سنة 398هـ فأفنى كثيرا من أهل مصر واستمر تفشيه حتى آخر سنة 399هـ فتزايدت الأمراض وعزت الأدوية وكثر الموت..)
كما ذكر ابن أيبك(12) في كتابه (اللقط الباهرة في خطط القاهرة)عن سنة 416هـ:
(أكل الفأر زرع مصر حتى أتى عليه وبطبيعة الحال كان إتلاف المحاصيل يؤدي إلى رفع أسعار المتبقي منها ويظهر الغلاء وفضلا عن هذا فقد كانت الفئران تنقل الطاعون وتؤدي إلى تفشيه فتهلك أعدادا غفيرة من الناس والماشية الأمر الذي كان يؤدي لحدوث المجاعات..)
وهذا بالإضافة إلى ثورة أبي ركوة الأموي واستيلائه على الفيوم..يقول ابن أيبك:
(كانت الثورات مصدرا للمجاعات طيلة تاريخ مصر..فمثلا ثورة أبي ركوة الوليد بن هشام الأموي الذي خرج بنواحي الفيوم في خلافة الحاكم بأمر الله الفاطمي فاضطربت الأسعار وغلت وعدم الخبز وشح الدقيق وتزاحم الناس على روايا الماء واضطربت الأحوال المالية فتدخلت السلطات بالشدة ونودي في الأسواق:
(أي أحد زاد في السعر فقد أوجب على نفسه القتل فتراجعت الأسعار إلى حدها)..)
كذلك فإن قصور فيضان النيل أدى إلى القحط والغلاء الفاحش في الأسعار..يقول المقريزي:
(وصل سعر الدينار إلى 34 درهم.. وبلغ القمح كل ويبة أربعة دنانير والأرز كل ويبة بدينار ولحم البقر رطل ونصف بدرهم ولحم الضأن رطل (17)بدرهم والبصل عشرة أرطال بدرهم والجبن ثماني أواق(18) بدرهم وزيت الأكل ثماني أواق بدرهم..والدقيق الرطل بدينار..والخبز كل رطلين بدرهم وربع..ولم يجد الفقراء والمساكين ما يطعمون به أولادهم سوى العسالج الخشنة من القنبيط التي ينزعها البقالون عن رؤوس الكرنب ويرمونها فيَقتات بها الفقراء مع القليل من كسب اللوز وكسب السمسم..وغلت روايا الماء لتعذر علف الدواب وانعدام من يسقي عليها فبيعت رواية الجمل بثلاثة دراهم وراوية البغل بدرهمين وتقاضى الطحانون أجرا عن طحن القفة خمسة دراهم..
وغلت القطاني كلها وجميع الحبوب وحل بالناس ضر ومسغبة.. وكثرت حوادث النهب التي قام بها عبيد الدولة وبعض العربان حتى أنهم نهبوا بلدة أشمون ثم نهبوا ساحل الفسطاط.. فتحارس الأهالي منهم وتخندقوا واشتبكوا معهم في عدة وقائع وأُغلقت العديد من الحوانيت وأُخليت بعض الدور وانقضت السنة والناس في أشد أنواع البلاء
ثم انعدم الخبز وانعدمت الأقوات .. وهلكت الماشية..وقام الخبثاء بتخزين الغلال وبيعها في السوق السوداء.. فعمت المجاعة وكثر الموت نتيجة سوء التغذية ومات خلق كثير من الجوع ..وخرج الخليفة في موكبه فتجمهر الناس عليه وكادوا يفتكون به لولا حرسه الذين استطاعوا تهريبه إلى القصر والناس يهتفون:
(الجوع..الجوع..ما هكذا فعل بنا أبوك ولا جدك)
فأمر الخليفة بضرب عنق كل من يخزن الغلال وحرق داره ونهب أمواله..فخاف الخزانين وأرشدوا المحتسب إلى 150 مخزنا سريا لتخزين القمح..وأخرجوا ما عندهم فتخففت الوطأة..
ثم أمر بالخبازين والطحانين فجمعوا وضربوا بالسياط في الميدان وشهر بهم..فانحلت الأزمة قليلا..
وفي سنة 406هـ زاد النيل زيادة كبيرة تخطت حد الاستبحار حتى غرق المقياس وامتلأ كل مكان من القاهرة بالماء ولم يبق طريق يسلك إليها إلا من الصحراء وغرقت الضياع والبساتين..)
ثم تولى الظاهر لإعزاز دين الله الحكم خلفا لأبيه الحاكم عام 414 هـ وكان أول من سن قوانين للحد من نفوق الماشية مثل حظر ذبح الإناث..ومنع ذبح الأبقار السليمة التي تصلح للحرث..وفرض العقوبات بالغرامة بل والسجن في بعض الأحيان على المخالفين..
ومما يذكر في عهده الوباء الرهيب الذي عم مصر قاطبة فكان يشبه الوباء الذي حدث أيام جوهر الصقلي..
يقول المقريزي:
القاهرة القديمة
(وفي خلافة الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي فشت الأمراض وكثر الموت في الناس في سنة 415هـ وانشغل الناس بما هم فيه من وباء عن الاحتفال بليلة الميلاد وتواتر الوباء والموت حتى لم يكن يخلو منزل واحد من عدد من المرضى وامتد الوباء إلى الواحات سنة 417هـ فحل بأهلها جدري عظيم مات به خلق كثير من أهلها ثم ثار بأهل مصر رعاف عظيم في العام نفسه واختتمت خلافة الظاهر بوباء آخر حل بمصر سنة 426هـ لم يعش الظاهر بعده طويلا إذ توفي في نصف شعبان سنة 427هـ..)
ثم تولى المستنصر بالله الحكم عام 427هـ بعد وفاة أبيه الظاهر..وهو ابن السابعة من عمره..وشهد عصره أقسى القحوط والمجاعات التي مرت على مصر طيلة تاريخها على الإطلاق..ولكني لن أذكر شيئا عنه الآن بل سأفرد له مقالا كاملا سترون وأنتم تطالعوه أنه يستحق الحديث عنه باستفاضة..
ثم تولى الخلافة المستعلي بالله خلفا لوالده المستنصر..وقد حدث زلزالين شديدين بمصر في عامين متتاليين عامي 487 و488هـ في مستهل خلافته فهدمت دور كثيرة وفني خلق كثير وخربت القاهرة وصارت أطلالا..
ثم تولى الآمر بأحكام الله الخلافة..وولى الأفضل بن بدر الجمالي الوزارة خلفا لوالده أيضا..
يقول ابن عذارى المراكشي:
(وأثناء ولاية الآمر بأحكام الله المنصور حدث في سنة 490هـ وباء في أعقاب غلاء هذا العام ثم امتد إلى العام التالي فمات خلق كثير وفي سنة 493 عم أكثر البلاد الطاعون نتيجة أن وفد على مصر أعداد كبيرة من سكان البلاد الشامية هربا من الفرنج والهجمات الصليبية على الشام وكانوا يحملون الأوبئة فعم الوباء البلاد ومات بمصر خلق كثير)..
يقول المقريزي:
( في سنة 497هـ عز القمح بمصر ثم هان فبيع أولا كل مائة إردب بمائة وثلاثين دينارا فذهب الأفضل إلى القائد عبد الله بن فاتك - الملقب بعد ذلك بالمأمون البطائحي- وولاه على الحسبة بغية تدبير الحال فختم على مخازن الغلات وأحضر أربابها وخيرهم في أن تبقى غلاتهم تحت الختم إلى أن تصل الغلة الجديدة أو يفرج عنها وتباع كل مائة إردب بثلاثين دينارا فمن أجاب أفرج عنه وباع بالسعر المذكور ومن لم يجب أبقى الختم على حواصله وقدر ما يحتاج إليه الناس في كل يوم من الغلة وقدر الغلال التي أجاب التجار إلى بيعها بالسعر المعين وما تدعو إليه الحاجة بعد ذلك بيع من غلات الديوان على الطحانين بذات السعر..فلم يزل الأمر على ذلك إلى أن دخلت الغلة الجديدة فانحلت الأسعار..واضطر أصحاب الغلة المخزونة إلى بيعها خشية من السوس فباعوها بالنذر اليسير وندموا على ما فاتهم من البيع بالسعر الأول..
وفي سنة 515هـ هبت ريح سوداء على مصر واستمرت ثلاثة أيام فأهلكت خلقا كثيرا من الناس والدواب والأنعام وأتلفت المزروعات والمحاصيل..
وحدثت في خلافة الحافظ لدين الله عبد المجيد أكثر من أزمة اقتصادية أولاها وقعت بين سنتي 531هـ - 532هـ فكانت غلاء شنيع وقحط ذريع... إلا أنه لم يستمر فإن الأفضل كان قد ركب إلى الجامع العتيق بمصر وأحضر كل من يتعلق به ذكر الغلة وأدب جماعة من المحتكرين ومن يزيد في الأسعار ووظف عليهم القيام بما يَحتاج إليه في كل يوم وباشر الأمر بنفسه وأخذ فيه بالحد..فلم يسع أحد خلافه ولم يزل الحال كذلك إلى أن من الله تعالى بالرخاء وكشف عن الناس ما نزل بهم من البلاء..
ثم حدث وباء في سنة 536هـ كثر فيه الموت وامتد وعظم في العام التالي حتى هلك فيه خلق لا يحصى..
وفي شعبان من ذات السنة غلت الأسعار وعدم القمح والشعير فبلغ القمح تسعين درهما للإردب والدقيق مائة وخمسين الحملة (الجوال) والخبز ثلاثة أرطال بدرهم والشعير بسبعة دراهم الويبة والزيت الطيب الرطل بثلاثة دراهم والجبن كل رطل بدرهمين والبيض كل مائة بعشرة دراهم والزيت الحار الرطل بدرهم ونصف والقلقاس كل رطل بدرهم والدجاج والفراريج لا يقدر على شيء منها لغلوها البالغ..
وفي خلافة الفائز بنصر الله في سنة 549هـ وقع غلاء بوزارة الصالح طلائع بن رزيق بلغ فيه إردب القمح خمسة دنانير لقصور ماء النيل عن الوفاء وكان بالمخازن من الغلات ما لا يحصى فأخرج جملة كثيرة من الغلال وفرقها على الطحانين وأرخص أسعارها ومنع من احتكارها وأمر الناس ببيع الموجود منها وتصدق على جماعة من الفقراء والمتجملين وتصدق الأمراء وذوو الجاه واليسار بما نفس عن الناس ما هم فيه من بلاء وسرعان ما انحلت الأزمة وعم الرخاء..
أثبت الصالح طلائع بن رزيق قدرة في إدارة شؤون الدولة الفاطمية.. فلما قتل ساءت أحوال الفاطميين في خلافة العاضد بالله آخر خلفاء الفاطميين ووقع الصراع الشهير بين شاور وضرغام على السلطة فأصبحت مصر ميدانا للتدخل الصليبي الذي أدى إلى تدخل نور الدين محمود بدوره لدفع الصليبين عن الاستيلاء على مصر فوقعت معارك وحروب كان لها بلا ريب أسوأ الأثر على أحوال البلاد الاقتصادية ووقعت الفسطاط فريسة هذا الصراع إذ تخرجت على يد شاور الذي أمر بإحراقها كيلا تقع في أيدي الصليبيين لذلك عانت البلاد من أزمة اقتصادية مزمنة في ظل هذه الأحوال السياسية المتردية وربما يفسر لنا هذا رضاء الناس بسقوط الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي وارتياحهم لهذا المصير الذي آلت إليه حتى قيل: إنه لم ينتطح في سقوطها عنزان..)
...تابع القراءة

الثلاثاء، 1 يناير 2013

معركه المنصورة..وبزوغ نجم المماليك ...وهزيمة الصليبيين

الملك لويس اسيرا

في 20 نوفمبر 1249م، بعد نحو خمسة أشهر ونصف من احتلال دمياط،[خرج الصليبيون من دمياط وساروا على البر بينما شوانيهم في بحر النيل توازيهم، وقاتلوا المسلمين هنا وهناك حتى وصلوا في 21 ديسمبر إلى ضفة بحر أشموم، الذي يُعرف اليوم بالبحر الصغير، فأصبحت مياه بحر أشموم هي الحاجز الذي يفصل بينهم وبين معسكر المسلمين على الضفة الأخرى. حصن الصليبيون مواقعهم بالأسوار، وحفروا خنادقهم، ونصبوا المجانيق ليرموا بها على عسكر المسلمين، ووقفت شوانيهم بإزائهم في بحر النيل، ووقفت شواني المسلمين بإزاء المنصورة، ووقع قتال شديد بين الصليبيين والمسلمين في البر ومياه النيل. حاول الصليبيون إقامة جسر ليعبروا عليه إلى الجانب الآخر ولكن المسلمين ظلوا يمطرونهم بالقذائف ويجرفون الأرض في جانبهم كلما شرعوا في إكمال الجسر حتى تخلوا عن الفكرة. وراحت المساجد تحض الناس على الجهاد ضد الغزاة مرددة الآية القرآنية: {انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}،[61] فصار الناس يتواردون من أنحاء مصر على منطقة الحرب بأعداد غفيرة.[62]
جنود الفرنجة الصليبيين على شواطئ دمياط

 وفاة السلطان الصالح أيوب
وبينما كان الصليبيون يتقدمون جنوباً داخل الأراضي المصرية اشتد المرض على السلطان الصالح أيوب وفارق الحياة بالمنصورة في 15 شعبان سنة 647 هـ، الموافق في 23 نوفمبر 1249م، فأخفت زوجته شجر الدر خبر وفاته، وأدارت البلاد بالاتفاق مع الأمير فخر الدين يوسف أتابك العسكر والطواشي جمال الدين محسن رئيس القصر، حتى لا يعلم الصليبيون فيزيد عزمهم ويشتد بأسهم، وحتى لا تتأثر معنويات الجيش والعوام. وأُرسل الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار زعيم المماليك البحرية إلى حصن كيفا لإحضار توران شاه ابن السلطان المتوفى لتسلم تخت السلطنة وقيادة البلاد في حربها ضد الغزاة. إلا أن نبأ وفاة السلطان الصالح تسرب إلى الملك لويس بطريقة أو بأخرى، فتشجع الصليبيون أكثر وظنوا أن التحالف القيادي القائم بين شجر الدر وهي امرأة والأمير فخر الدين وهو رجل طاعن في السن لن يصمد طويلاً وسوف يتهاوى عاجلاً ومعه مصر.



معركة دمياط




الهجوم عبر المخاضة
في 8 فبراير من عام 1250م دل أحدهم الصليبيين على مخائض في بحر أشموم  مكنت فرقة يقودها أخو الملك "روبرت دى أرتوا" سوياً مع فرسان المعبد، وفرقة إنجليزية يقودها "وليم أوف ساليزبري" (بالإنجليزية: William of Salisbury‏) من العبور بخيولهم وأسلحتهم إلى الضفة الأخرى ليفاجأ المسلمون بهجوم صليبي كاسح على معسكرهم في "جديلة"  على نحو ثلاثة كيلومترات من مدينة المنصورة. في هذا الهجوم المباغت قتل فخر الدين يوسف وهو خارج من الحمام مدهوشاً بعدما سمع جلبة وصياح في المعسكر. أدى الهجوم إلى تشتت الأجناد وتقهقرهم مذعورين إلى المنصورة. وبعد أن احتل الصليبيون معسكر جديلة تقدموا خلف "روبرت دو أرتوا" نحو المنصورة على أمل القضاء على الجيش المصري برمته بعد أن أخذتهم العزة وظنوا أنهم لا ريب منتصرين.

 
معركة المنصورة
أمسك المماليك بزمام الأمور بقيادة فارس الدين أقطاي، الذي أصبح القائد العام للجيش المصري، وكان هذا أول ظهور للمماليك كقواد عسكريين داخل مصر. تمكن المماليك من تنظيم القوات المنسحبة وإعادة صفوفها، ووافقت شجر الدر -الحاكم الفعلي للبلاد-  على خطة بيبرس البندقداري باستدراج القوات الصليبية المهاجمة داخل مدينة المنصورة، فأمر بيبرس بفتح باب من أبواب المنصورة وبتأهب المسلمين من الجنود والعوام داخل المدينة مع الالتزام بالسكون التام. وبلعت القوات الصليبية الطعم، فظن فرسانها أن المدينة قد خوت من الجنود والسكان كما حدث من قبل في دمياط، فاندفعوا إلى داخل المدينة بهدف الوصول إلى قصر السلطان، فخرج عليهم بغتة المماليك البحرية والجمدارية وهم يصيحون كالرعد القاصف  وأخذوهم بالسيوف من كل جانب ومعهم العربان والعوام والفلاحين يرمونهم بالرماح والمقاليع والحجارة، وقد وضع العوام على رؤوسهم طاسات نحاس بيض عوضاً عن خوذ الأجناد  وسد المسلمون طرق العودة بالخشب والمتاريس فصعب على الصليبيين الفرار، وأدركوا أنهم قد سقطوا في كمين محكم داخل أزقة المدينة الضيقة وأنهم متورطون في معركة حياة أو موت، فألقى بعضهم بأنفسهم في النيل وابتلعتهم المياه.

الظاهر بيبيرس

  نتائج معركة المنصورة
قُتل عدد كبير من القوات الصليبيية المهاجمة. من فرسان المعبد وفرسان الإسباتريه لم ينج سوى ثلاثة مقاتلين، وفنيت الفرقة الإنجليزية تقريباً عن أخرها.واضطر أخو الملك لويس "روبرت دي أرتوا" إلى الاختباء في أحد الدور،ثم قتل هو و"وليم أوف ساليزبري" قائد الفرقة الإنجليزية.

أثناء المعركة راح الفرنج على الضفة المقابلة لبحر أشموم يكدون ويجدون لإتمام الجسر حتى يتمكنوا من العبور لمساعدة فرسانهم، ولكن لما وردتهم أنباء سحق الفرسان، عن طريق بيتر أوف بريتني الذي فر إليهم بوجه مشجوج من ضربة سيف، وشاهدوا بقايا فرسانهم مدبرين إلى جهتهم والمسلمين في أعقابهم، راحوا يلقون بأنفسهم في مياه النيل بغية العودة إلى معسكراتهم وكاد لويس ذاته أن يسقط في الماء. يصف المؤرخ "جوانفيل" الذي حضر الواقعة كالتالي: "في تلك المعركة أعداد كبيرة من الناس من ذوي الهيئات المحترمة ولوا مدبرين فوق الجسر الصغير في مشهد مخزي لأبعد الحدود. لقد كانوا يهرولون وهم في حالة من الذعر الشديد، وبدرجة جعلتنا لا نتمكن من إيقافهم على الإطلاق. أستطيع ذكر أسمائهم ولكني لن أفعل ذلك لأنهم صاروا في عداد الأموات". وبذلك أصبح الصليبيون في ذات الموقع الذي باتوا فيه في الليلة السابقة على الضفة الشمالية من بحر أشموم  حيث أداروا عليهم سوراً وبقوا تحت هجوم مستمر طوال اليوم. وقد اتهم بعض الفرسان لويس التاسع بالجبن والتخاذل. بعد المعركة عقد فارس الدين أقطاي، القائد العام للجيوش المصرية، مجلس حرب لمناقشة أمر يتعلق بالعثور بين قتلى الفرنج على شارة تحمل علامة البيت الملكي الفرنسي، كان صاحب الشارة هو شقيق الملك لويس، "روبرت دى أرتوا" الذي لقي مصرعه في المعركة، ولكن أقطاي ظن أنها خاصة بلويس وأن العثور عليها دليل على أنه قد قُتل، فقال: "كما أن المرء لا يهاب جسداً بلا رأس، فإنه أيضاً لا يهاب قوماً بلا قائد"، فاتفق الجميع على ضرورة الهجوم الفوري على معسكر الصليبيين، فقام المسلمون في الفجر بشن هجوم واسع صمد فيه الفرنج ولكنه ألحق بهم خسائر فادحة. في هذا الهجوم فقد مقدم فرسان المعبد "وليم أوف سوناك" (بالإنجليزية: William of Sonnac‏) إحدى عينيه، ثم فقد الأخرى بعد بضعة أيام ومات. انطلق الحمام من المنصورة بنبأ الانتصار على الصليبيين وحط بالقاهرة، فضربت البشائر بقلعة الجبل وفرح الناس وأقيمت الزينات.

المؤرخ جان دى جوانفيل معاصر الحملة ومرافقها

  وصول توران شاه واكتساح الصليبيين في فارسكور
تحصن الصليبيون داخل معسكرهم ثمانية أسابيع آملين في انهيار القيادة في مصر حتى يتمكنوا من معاودة محاولة التقدم إلى القاهرة. لكن الحلم الصليبي لم يتحقق، وبدلاً من انهيار القيادة وصل السلطان الأيوبي الجديد توران شاه إلى المنصورة في 24 ذو القعدة سنة 648 هـ، الموافق في 28 فبراير عام 1250، لقيادة الجيش. بوصول السلطان الجديد تنفست شجرة الدر والأمراء الصعداء وأعلن رسمياً في البلاد عن نبأ وفاة السلطان الصالح نجم الدين أيوب.

قام المسلمون بنقل المراكب وهي مفككة على ظهور الإبل وبعد تركيبها على الشط أنزلوها في مياه النيل خلف قوات لويس التاسع، وهي حيلة لجأ إليها الملك الكامل جد توران شاه في نفس المكان أثناء الحملة الصليبية الخامسة، وبذلك منعوا وصول الإمدادات والمؤن من البحر المتوسط ودمياط إلى القوات الصليبية التي صارت محاصرة وفي موقف لا تحسد عليه، فلا هي قادرة على الاقتحام جنوباً والتقدم نحو القاهرة ولا هي ممونة من قاعدتها في الشمال. استخدم المسلمون النار الإغريقية في تدمير مراكب الإمدادات الصليبية المتجهة من دمياط إلى قوات لويس المتمركزة جنوب المنصورة، كما تمكنوا من الاستيلاء على ثمانين سفينة صليبية، وفي يوم 16 مارس تمكنوا من تدمير قافلة كانت تتكون من اثنين وثلاثين سفينة. لم يمض وقت طويل حتى كانت قوات لويس قد أنهكت من الحصار والهجمات المتواصلة في النهار والليل، وبدأ الجنود الصليبيون يعانون من الجوع والمرض ويفرون إلى جيش المسلمين، بعد أن أصابهم اليأس والإحباط، بل والشك في الفكرة الدينية التي حملتهم على الانضمام إلى حملة لويس التاسع ضد بلاد المسلمين.

على الرغم من هزيمة لويس التاسع وانتهاء حلمه لبلوغ القاهرة بانحساره في مصيدة جنوب المنصورة، بقوات جائعة ومريضة وخائفة، إلا أنه عرض على المسلمين أن يسلمهم دمياط في مقابل تسليمه بيت المقدس وأجزاء من ساحل الشام. وهو عرض كان قد اقترحه السلطان الأيوبي الصالح أيوب على لويس بعد احتلاله دمياط. ورفض المسلمون  عرض لويس لإدراكهم أن وضعه العسكري لم يعد يؤهله لوضع شروط أو عقد صفقات. وبذلك أصبح أمام لويس التاسع اختيار واحد ألا وهو الفرار إلى دمياط وإنقاذ نفسه وجنوده.


في 5 أبريل من سنة 1250، في جنح ظلام الليل، بدأت قوات الصليبيين رحلة الهروب إلى دمياط. ومن شدة العجلة والارتباك، نسى الصليبيون أن يدمروا جسراً من الصنوبر كانوا قد أقاموه فوق قناة أشموم.عندما أحس المسلمون بحركة الصليبيين، عبروا فوق الجسر وراحوا يطاردونهم ويبذلون فيهم السيوف من كل جانب حتى وصلوا إلى فارسكور حيث تم تدميرهم بالكامل ووقع الملك لويس وأمراؤه ونبلاؤه في الأسر في 6 أبريل من نفس العام.

في تلك الغضون كان الصليبيون يروجون شائعة في أوروبا تزعم أن الملك لويس التاسع هزم سلطان مصر في معركة عظمى تبعها سقوط القاهرة في يده. بعدما وصلت أنباء هزيمة لويس التاسع ووقوعه في الأسر ذهل الناس في فرنسا ونشأت حركة هستيرية عرفت باسم حملة الرعاة الصليبية.

النتائج المباشرة لهزيمة لويس التاسع
تحققت نبوءة الصالح أيوب بأن بغي لويس التاسع سيصرعه وإلى البلاء سيقلبه. استناداً إلى المصادر الإسلامية قُتل في حملة لويس التاسع ما بين 10 آلاف و 30 آلف من الجنود الصليبيين.
أُسر لويس التاسع في "منية عبد الله"، المعروفة بميت الخولي عبد الله الآن، بعد أن استسلم مع نبلائه للطواشي جمال الدين محسن الصالحي،وأودع مغللاً في بيت القاضي إبراهيم بن لقمان، كاتب الإنشاء، تحت حراسة طواشي يدعى صبيح المعظمي. كما أسر أخواه "شارل دانجو" و"ألفونس دو بويتي" وعدد كبير من أمرائه ونبلائه وقد سجن معظمهم معه في دار ابن لقمان. أما الجنود العاديون الذين أسروا فقد أقيم لهم معتقل خاص خارج المدينة. وأرسلت غفارة  لويس التاسع إلى سوريا مع كتاب توران شاه ببشارة النصر، وكتب في ذلك أحد الشعراء:

فلا زال مولانا يبيح حمى العدى ويلبس أسلاب الملوك عبيده.

سُمح للويس التاسع بمغادرة مصر مقابل تسليم دمياط للمصريين، والتعهد بعدم العودة إلى مصر مرة أخرى، بالإضافة إلى دفعه فدية قدرها 400 ألف دينار تعويضاً عن الأضرار التي ألحقها بمصر. فدفع نصف المبلغ بعد أن جمعته زوجته في دمياط، ووعد بدفع الباقي بعد وصوله إلى عكا، وهو مالم يفعله بعد أن تهرب من الدفع فيما بعد.

في 3 صفر 648هـ، الموافق في 8 مايو عام 1250، بعد احتلال دام أحد عشر شهراً وتسعة أيام،  سلم لويس التاسع دمياط وغادرها إلى عكا مع أخويه و12,000 أسير كان من ضمنهم أسرى من معارك سابقة. أما زوجته "مرجريت دو بروفنس" والتي كانت في غضون ذلك قد أنجبت طفلأ في دمياط أسمته "جان ترستان" (بالفرنسية: Jean Tristan‏) أي "جان الحزن"، فقد غادرت دمياط مع وليدها قبل مغادرة زوجها ببضعة أيام. وكانت مرجريت تعاني من كوابيس مرعبة أثناء نومها، وتتخيل أن غرفتها تغتص بالمسلمين، فكانت دائماً تصرخ في الليل: "أغيثوني.. أغيثوني". أما "جان ترستان" فقد مات مع لويس التاسع في سنة 1270م أثناء الحملة الصليبية الثامنة على تونس، وهي الحملة التي كان من أهدافها تحويل تونس إلى قاعدة صليبية ينطلق منها لويس التاسع لمهاجمة مصر مرة أخرى. مع أن قسمه بعدم العودة إلى مصر كان أحد شروط إطلاق سراحه.

وكتب أحد الشعراء المسلمين  ضمن أبيات تسخر من نهاية حملة لويس التاسع:

أتيت مصر تبغى ملكها تحسب أن الزمر يا طبل ريح

فساقك الحين إلى أدهم ضاق بك عن ناظرك الفسيح

و كل أصحابك أودعتهم بحسن تدبيرك بطن الضريح

ألهمك الله إلى مثلها لعل عيسى منكم يستريح

وقل لهم إن أزمعوا عودة لأخذ ثأر أو لفعل قبيح

دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشي صبيح

لم يعد لويس إلى وطنه فرنسا بل آثر البقاء في مدينة عكا بعد أن سمح لأخوته ومعظم نبلائه بالسفر إلى فرنسا، وحملهم رسائل إلى ملوك أوروبا يطلب فيها النجدة والمدد عله يتمكن من إحراز نصر في الشام يمسح به وصمة الفشل والهزيمة التي لحقت به في مصر. لكنه اضطر للعودة إلى فرنسا بعد أربع سنوات بعد أن توفيت والدته "الملكة بلانش" التي كانت تدير شئون الحكم في فرنسا وقت غيابه.

على الرغم من الهزيمة الساحقة التي مني بها لويس وجيشه والأعداد الغفيرة من قتلاه وجرحاه وأسراه، وعلى الرغم من أنه لم يتمكن من الوصول إلى "رأس الأفعى" في القاهرة، بل لم يتمكن من الاستيلاء على المنصورة وفر في النهاية بقواته ووقع في الأسر وقيد بالسلاسل مع باروناته، ووُضع في السجن تحت حراسة خاصة وليس أميراً كما كانت التقاليد، وكاد أن يُقتل لولا موافقة شجرة الدر والمماليك على إطلاق سراحة مقابل دفع دية، إلا أن بعض المؤرخين الغربيين أشاروا إلى أن لويس انتصر في معركة المنصورة، معتبرين الهجوم الخاطف على معسكر المسلمين في جديلة وصمود لويس عند الجسر أثناء فرار فرسانه انتصاراً وأن هذا الصمود هو معركة المنصورة، هذا رغماَ من أن بعض الفرسان الفارين اتهموا لويس بسبب توقفه عند الجسر بالجبن والتخاذل. وأضافوا أن استسلامه في فارسكور كان نتيجة لخيانة جندي صليبي رشاه المسلمون كي يصيح في الجنود على لسان لويس بإلقاء السلاح والاستسلام. وأضافوا أن المسلمين طلبوا منه بعد القبض عليه أن يوافق على تنصيبه سلطاناً على مصر ولكنه رفض في عزة وكبرياء، متحججاً بأنه في حالة تنصيبه سلطاناً سيضطر إلى تخيير رعيته المسلمة بين اعتناق المسيحية أو القتل.

ويعبر وصف المؤرخ الصليبي "ماثيو باريس"، المتوفي عام 1258، الذي سجله في كتابه بعد أحداث معركة المنصورة، عن مدى الألم الذي شعر به الصليبيون بعد هزيمتهم: "كل الجيش المسيحي تمزق إرباً في مصر، وا أسفاه، كان يتكون من نبلاء فرنسا، وفرسان الداوية والاسبتارية وتيوتون القديسة ماري وفرسان القديس لازاروس". عززت هزيمة القوات الصليبية في المنصورة اسم تلك المدينة المرتبط بالانتصار والذي يرجع إلى تاريخ أقدم من الحملة الصليبية السابعة.

  النتائج التاريخية لهزيمة الصليبيين

رسالة جويوك للبابا انوسينت الرابع.واجهت الحملة الصليبية السابعة على مصر نهايتها المأساوية في فارسكور في عام 1250 معلنة عن بدء عصر تاريخي جديد لكل القوى الإقليمية التي كانت متواجدة في تلك الفترة. هزيمة الحملة الصليبية السابعة في مصر أثبتت مرة أخرى مكانة مصر كقلعة وترسانة عسكرية للإسلام في تلك الأيام. الحملة الصليبة السابعة كانت آخر حملة صليبية منظمة على مصر. لم يتمكن الصليبيون من تحقيق حلمهم باحتلال بيت المقدس مرة أخرى، وفقد ملوك أوروبا، باستثناء لويس التاسع، اهتمامهم بإطلاق حملة صليبية جديدة.

ولكن مباشرة بعد رحيل لويس التاسع إلى عكا، اغتيل السلطان الأيوبي توران شاه بفارسكور بأيدي ذات المماليك الذين دحروا الصليبيين في المنصورة وفارسكور، ليصبحوا منذ ذلك الحين حكاماً لمصر وبعد قليل حكاماً للشام.

بعد هزيمة الصليبيين في سنة 1250 توزعت الخريطة السياسية والعسكرية في شرق حوض البحر المتوسط على أربع قوى أساسية: المماليك في مصر، الأيوبيون في الشام، الصليبيون في عكا وساحل الشام، مملكة قليقية الأرمينية، وإمارة أنطاكية الصليبية.

بينما تحول المماليك في مصر والأيوبيون في الشام إلى عدوين لدودين، تحالف صليبيو عكا وأرمن قليقية وصليبيو أنطاكية. من مقر إقامته في عكا حاول لويس مناورة مماليك مصر، مستغلاً الصراع الناشب بينهم وبين بقايا الدولة الأيوبية في الشام. بمجرد وصول لويس إلى عكا وفد إليه مبعوث من الناصر يوسف ملك دمشق طالباً إقامة تحالف أيوبي-صليبي ضد مماليك مصر. ولكن لويس رفض بسبب خوفه على مصير أسراه المحتجزين في مصر، ولمعرفته أن مصر قوة لا يُستهان بها وفي ذاكرته هزيمته في مصر وهزيمة التحالف الصليبي مع أيوبي الشام في سنة 1244م والذي أدى إلى سقوط بيت المقدس بالكامل في أيدي المسلمين. ولكن بعدما أرسل الناصر يوسف رسالة إلى لويس توحي باستعداده لتسليمه القدس في مقابل مساعدته ضد السلطان عز الدين أيبك في مصر اهتم لويس بالأمر وأرسل إلى أيبك موفوده "جون أوف فالنسينس" (بالإنجليزية: John of Valenciennes‏) يحذره من أنه سيضطر إلى التحالف مع دمشق ضده في حالة عدم الإفراج عن الأسرى الصليبيين المحتجزين في مصر. لم تؤد تلك المشاريع التحالفية إلى شيء ذي أهمية - باستثناء موافقة أيبك على الإفراج عن الأسرى والتنازل عن بقية الفدية المطلوبة من لويس في مقابل منع الناصر محمد من الاقتراب من حدود مصر، ولكنها كانت تنذر بسقوط بني أيوب في الهاوية بعد كل إخفاقاتهم وصراعاتهم الداخلية، وفقدانهم كل مبررات بقائهم في حكم المنطقة العربية الإسلامية، مما أدى في النهاية إلى بزوغ نجم دولة المماليك كقوة عسكرية مخلصة، تذود عن الإسلام وتجاهد الغزاة ولا تهادنهم ولا تتنازل لهم عن أراضي المسلمين ومقدساتهم،وكذلك كان حال الأيوبيين وقت بزوغ نجمهم في عهد صلاح الدين الأيوبي.

في تلك الغضون كانت الجيوش المغولية آخذة في التوغل في الجانب الشرقي من أوروبا والعالم الإسلامي. الصليبيون وحلفهم كانوا يأملون في التحالف مع المغول ضد العالم الإسلامي. في عام 1247 خضعت مملكة قليقية بإرادتها للمغول وفي عام 1254، بعد أربع سنوات من فشل الحملة الصليبية السابعة، قام "هتوم" ملك أرمينية الصغرى بزيارة "قارقروم" عاصمة المغول. في عام 1253 أرسل لويس التاسع من عكا الكاهن الفرنسيسكاني "وليم أوف روبروك" (بالإنجليزية: William of Rubruck‏) إلى عاصمة المغول للتشاور. وكان وليم هذا يصحب لويس في مصر أثناء حملته عليها. فقد كان من ضمن أهداف الحملة الصليبية السابعة على مصر بقيادة لويس التاسع إنشاء حلف صليبي-مغولي ضد العالم الإسلامي.

في عام 1258 دمر المغول بغداد التي كانت مركزاً هاماً من مراكز العلم والثقافة في العالم الإسلامي وأسقطوا الخلافة العباسية ثم احتلوا سوريا، وقبل أن يتوجهوا إلى مصر ذهب إليهم المماليك وهزموهم عند عين جالوت وأوقفوا زحفهم. وقتل القائد كتبغا الذي اشترك في تدمير بغداد، وقاد جيش المغول في عين جالوت، وكان مسيحياٌ نسطورياً، وقد صحبه في عين جالوت كل من أمير أنطاكية الصليبية، وملك أرمينية الصغرى. وكان الناصر يوسف في آخر إخفاقات الأيوبيين قد حاول التحالف مع المغول ضد مصر، بنصيحة وزيره صديق المغول زين الدين الحافظي، وسيراً على نهج المغيث عمر ملك الكرك الأيوبي، ولكنهم قتلوه بعد هزيمتهم. وقام مماليك مصر بتحرير الشام من المغول، وزالت دولة الأيوبيين تماماً. وأصبح المماليك، الذين تشكلت دولتهم في رحم الأخطار، حكاماً لمصر والشام، والقوة المهيمنة على شرق وجنوب البحر المتوسط لعقود طويلة من الزمان.ومع ذلك، على الرغم من هزيمة الصليبيين والمغول، إلا أن الحروب أنهكت المسلمين اقتصادياً وبشريا، وأدى الاجتياح المغولي إلى اضمحلال العالم الإسلامي اضمحلالاً شديداً، ذلك أن المغول قتلوا أعداداً غفيرة من علماء المسلمين ودمروا المكتبات بما فيها من أعمال وإنجازات علمية لا تعوض، فانمحى بذلك جزء كبير من التراث الثقافي والعلمي للمسلمين.


...تابع القراءة