يقول المقريزي:
(وكان الوباء غالبا ما يبدأ في المدن المزدحمة بالسكان خصوصا مدينة
الفسطاط لسوء أحوالها الاجتماعية والصحية.. فقد كانت الفسطاط مدينة مزدحمة
بالسكان أشد الازدحام وكانت شوارعها ضيقة وترابها تثيره الأرجل فتتكدر
منه أرجاؤها ويسوء بسببه هواؤها فيجعلها هذا الهواء السيئ المترب عرضة
للوباء الَذي يتفشى بين الناس في سرعة بسبب ضيق الشوارع واكتظاظ المدينة
بالناس لذلك كان المياسير من أهل المدينة يهربون إلى الريف من الوباء إذا
حل بالفسطاط)
بعض الأوبئة والمجاعات التي وقعت بمصر على مدار تاريخها الإسلامي:
1- عصر الولاة: (21 - 254هـ/ 641 - 868م):
|
كان الناس يهربون من المدن عند وقوع الوباء
|
يقول ساويرس بن المقفع(9) في كتابه (تاريخ البطاركة):
(حدث سنة 28هـ في ولاية عبد الله بن أبي السرح غلاء لم يحدث مثله من
زمن قلوديوس وإلى أيامه فسار كل من في الصعيد إلى الريف في طلب الغلة..
وكان الناس مطاريح في الأزقة والأسواق أمواتا مثل السمك المدمس على برك
الماء.. وكان يموت في كل يوم عدد كبير)
يقول المقريزي:
(في سنة 66 هـ وقع الطاعون بمصر ومات فيه خلق عظيم..
وفي سنة 70 هـ وقع طاعون آخر ووباء بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان
فخرج عبد العزيز من الفسطاط هاربا إلى حلوان التي أعجبته فاتخذها سكنا
وجعل بها الحرس والشرط والأعوان..
وإذا كان عبد العزيز قد هرب من وباء فقد كان قدره أن يلقى حتفه في وباء
آخر نزل بالفسطاط أيضا سنة 85هـ.. وفي سنة 87 هـ غار النيل فلم يبق منه
شيء..وعم الغلاء..وتكرر ذلك بعد تسعة أعوام في عهد عبد الله بن عبد الملك
بن مروان وكانت شدة عظيمة فتشاءم الناس من ابن عبد الملك وسموه مكيسا
وانتهى الأمر برحيل عبد الله عن مصر في صفر من العام التالي تلاحقه اللعنات
وهجو الشعراء..
وفي سنة 90هـ في ولاية قرة بن شريك نزل بالبلاد وباء عظيم وصار الموتى كل يوم لا يعرف عددهم من كثرتهم..
وفي سنة 96 هـ تولى خراج مصر أسامة بن زيد التنوخي وكتب إليه الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك أن:
(احلب الدر حتى ينقطع ثم احلب الدم حتى ينصرم)
فأصابت أهل مصر شدة عظيمة وحدث غلاء عظيم مات بسببه خلق كثير أكثر مما يموت في الوباء..
وفي سنة 105 في ولاية محمد بن عبد الملك من قبل أخيه هشام وقع بمصر وباء
شديد فهرب منه محمد بن عبد الملك إلى الصعيد لكنه عاد بعد بضعة أيام إلى
الفسطاط ليخرج عن مصر نهائيا لم يلها إلا نحوا من شهر..
وفي سنة 108 هـ في ولاية حفص بن الوليد على مصر من قبل هشام بن عبد
الملك حدث بمصر قحط شديد فاستسقى حفص بالناس..فخرجوا لصلاة الاستسقاء
مسلميهم وكتابييهم فسقوا بفضل الله..
وفي سنة 133 هـ في ولاية أبي عون أول عصر العباسيين لم يصل النيل إلى حد
الوفاء فصلى الناس صلاة الاستسقاء وخرج في ذلك المسلمون واليهود والنصارى
من أهل الفسطاط والجيزة.. وتبع الغلاء وباء شديد فهرب أبو عون إلى دمياط
خوفا من الوباء..)
………………………………………………….
2-الدولة الطولونية: (254هـ / 868م - 292هـ 904م)
|
عصر الطولونيين كان عصر رخاء ...
|
والجدير بالذكر أن عصر الطولونيين بمصر كان
عصر رخاء اقتصادي لم تشهد مصر خلاله أي أزمات أو قحوط أو مجاعات نتيجة حسن
تدبير أحمد بن طولون ومن أتى بعده وإصلاحاتهم السياسية والاقتصادية..
ومما يذكر في ذلك العصر من الملمات هو تعرض مصر لزلزال شديد..وعلى ندرة
الزلازل بمصر إلا أنها كانت شديدة الوطء..يقول ابن بطريق(10)في كتابه (نظم
الجوهر) المشهور ب(تاريخ ابن بطريق):
(وفي عهد خمارويه في سنة 273 هـ وقعت بمصر رجفة عظيمة سقطت فيها دور
كثيرة ومات خلق كثير..وظن الناس بها زلزلة الساعة.. فاضطربوا وعم البلاء
والغلاء..حتى بلغ سعر مُد القمح(13) دينارا..وانعدمت الأقوات حتى أكل
الناس بذر الكتان.. فمات خلق كثير حتى امتلأت أسواق مصر موتى وكانوا
يحملونهم على الجمال على كل جمل ثمانية موتى ويحفرون لهم حفرة عظيمة
ويلقونهم فيها)..
وكذلك ما حدث عام 290 هـ من القحط الناتج من عدم وصول منسوب الفيضان لحد
الكفاية وانقطاع قطر السماء..فامتد القحط طيلة 3 سنوات عجفاء انتهت بسقوط
الدولة الطولونية عام 292 هـ وعودة مصر تحت الحكم العباسي من جديد..وبقيت
كذلك لثلاثة عقود..
يقول ابن عذارى المراكشي(11)في كتابه (البيان المغرب في اختصار تاريخ ملوك الأندلس والمغرب):
(حدث سنة 307 هـ في ولاية زكا الأعور والي مصر من قبل الخليفة العباسي
المقتدر بالله أن غلت الأسعار بمصر ووقع الوباء في الناس وجلا كثير منهم
وكانوا في هربهم من الوباء يحملونه معهم حينما حلوا فيفشى وينتشر فعم
الوباء طول البلاد وعرضها حتى أفنى ثلثي السكان..
وخلال ذلك لم يحدث قحط بمصر سوى بسبب ثورة محمد بن علي الخليجي على فساد
الوالي العباسي محمد بن سليمان الكاتب وتنكيله بآل طولون..ونتج عن هذه
الثورة بلاء وقحط شديد..وصارت البلاد يبابا..
ثم تولى أمر مصر الوالي هلال بن بدر (309 - 311 هـ) فاضطربت أحوال مصر
وكثر القتل والنهب في الناس وفشا الفساد وقطع الطريق بالديار المصرية فعظم
ذلك على الرعية وضعف هلال عن إصلاح أحوال مصر فصار كلما سد أمرا انخرق
عليه آخر فكانت أيامه على مصر شر أيام فلما تفاقم الأمر عزله الخليفة
المقتدر بالله
وولى غيره..وبقي الحال هكذا إلى أن نجح محمد بن طغج الإخشيدي في دخول الفسطاط في سنة 323هـ/ 935م..وأسس الدولة الإخشيدية..)
.................................................................................................
2- الدولة الإخشيدية:( 323هـ/ 935م- 358هـ/ 960م)
|
سنة 341 هـ تسببت الفئران بالمجاعة
|
كانت البداية مع الجراد.. يقول ابن بطريق:
(في سنة 327هـ هجم على مصر جراد لا توصف كثرته حتى منع شعاع الشمس أن
يقع على الأرض فأتى على الكروم والفواكه والنخل حتى خربت البساتين
والحقول..فعمت المجاعة وخرج الناس في طلبه ليأكلوه حتى أفنوه..
وفي سنة 347هـ شهدت مصر جرادا طبق الدنيا فأتى على جميع الغلات
والأشجار..ونفقت الماشية وعمت مجاعة أشد وطئا من الأولى..وما أفاد الناس
ما أكلوه منه إذ عم الموت في كل مكان..فأكل الناس حيوانات الشوارع ثم
أكلوا جيف الماشية)
ثم حدث اجتياح الفئران لمصر..يقول المقريزي:
(وقع سنة 341 هـ وباء الفأر وأهلك الغلات والكروم..وحدثت مجاعة شديدة
فاضطر الناس لأكل الكلاب والقطط ثم عمدوا إلى الفئران..ويقول بعض الثقات
أن اصطياد الفئران كان سهلا لفرط ضخامتها فكان الفأر يعادل في حجمه
الأرنب..)
ثم حدث حريق القاهرة الشهير..قال ابن عذارى:
(وكانت المدن الكبيرة تتعرض لحرائق كبيرة ففي سنة 343هـ في عهد كافور
الإخشيدي وقع حريق كبير بالفسطاط في سوق البزازين وقيسارية العسل ودخل
الليل والنار على حالها لم تتغير وبات الناس على خطر
عظيم فركب كافور وأمر بالنداء: (من جاء بقربة أو كوز ماء فله درهم)
فكان مبلغ ما صرفه عشرة آلاف درهم ونيف.. وكان جملة ما احترق غير البضائع والأقمشة ستة عشر ألف دار)
ثم واجهت مصر أخطر أزماتها الاقتصادية على مر تاريخها خلال حكم الدولة
الإخشيدية..استمرت تلك الأزمة تسع سنوات كاملة حيث بدأت عام 352هـ ويصفها
المقريزي بقوله:
(ثم وقع الغلاء في الدولة الإخشيدية أيضا واستمر تسع سنين متتابعة
وابتداء في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة والأمير إذ ذاك علي بن الإخشيد
وتدبير الأمور إلى أبي المسك كافور الإخشيدي وكان سبب الغلاء أن ماء النيل
انتهت زيادته إلى خمسة عشر ذراعا وأربع أصابع فنزع السعر بعد رخص فما كان
بدينار واحد صار بثلاثة دنانير وعزَ الخبز فلم يوجد وزاد الغلاء حتى بلغ
القمح كل ويبتين(14) بدينار وقصر مد النيل في سنة ثلاث وخمسين فلم يبلغ
سوى خمسة عشر ذراعا وأربعة أصابع واضطرب فزاد مرة ونقص أخرى حتى صار في
النصف من شهر بابَه إلى قريب من ثلاثة عشر ذراعا ثم زاد قليلا وانحط سريعا
فعظم الغلاء وانتقضت الأعمال لكثرة الفتن ونهبت الضياع والغلات وماج
الناس في مصر بسبب السعر فدخلوا الجامع العتيق بالفسطاط في يوم جمعة
وازدحموا عند المحراب فمات رجل وامرأة في الزحام ولم تصل الجمعة يومئذ
وتمادى الغلاء إلى سنة 355هـ وتعرض الصعيد لهجمات النوبة التي وصلت حتى
أخميم..وفسد ما بين أبي الحسن علي بن الإخشيد صاحب مصر وبين كافور
الإخشيدي مدبر مملكته حتى منع كافور الناس من الاجتماع به ولم يحسم الخلاف
إلا وفاة أبي الحسن علي معتلا في سنة 355 هـ فانفرد كافور بحكم مصر..
وفي سنة خمس وخمسين كان مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وأصابع وقصر مده
وقلت جريته وفي سنة ست وخمسين لم يبلغ النيل سوى اثني عشر ذراعا وأصابع
ولم يقع مثل ذلك في الملة الإسلامية وكان على إمرة مصر حينئذ كافور
الإخشيدي فعظم الأمر من شدة الغلاء..
ثم مات كافور وتولى أبو الفوارس أحمد بن علي الإخشيدي وهو ابن 11 سنة..
واضطربت أحوال البلاد اضطرابا شديدا فكثرت الفتن والحروب بين الجند
والأمراء وراح ضحيتها خلق كثير وانتهبت الأسواق وأشعلت الحرائق وتضاعف
السعر حتى بيع إردب(15) القمح بستة دنانير وأفرط الغلاء حتى أطلق عليه
الغلاء العظيم..
وأكل الناس الجيف والكلاب.. وكانوا يسقطون موتى من الجوع واقترن بذلك
وباء عظيم فكثر الموت ولم يلحق دفن الموتى فكان يحفر لهم حفر ويرمى فيها
عدد كثير ويردم عليهم التراب من غير صلاة ولا غسل ولا كفن
واختلف العسكر فلحق الكثير منهم بالحسن بن عبد الله بن طغج وهو يومئذ
بالرملة وكاتب الكثير منهم المعز لدين الله الفاطمي وعظم الإرجاف بمسير
القرامطة إلى مصر وتواترت الأخبار بمجيء عساكر المعز من المغرب إلى أن
دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ودخل القائد جوهر الصقلي بعساكر الإمام
المعز لدين الله..
وبنى القاهرة المعزية وكان مما نظر فيه أمر الأسعار.. فضرب جماعة من
الطحانين وطيف بهم.. وجمع سماسرة الغلات بمكان واحد وتقدم ألا تباع الغلات
إلا هناك فقط.. ولم يجعل لمكان البيع غير طريق واحد فكان لا يخرج قدح
قمح(16) إلا ويقف عليه سليمان بن عزة المحتسب واستمر الغلاء إلى سنة ستين
فاشتد فيها الوباء وفشت الأمراض وكثر الموت حتى عجز الناس عن تكفين الأموات
ودفنهم فكان من مات يطرح في النيل..
فلما دخلت سنة إحدى وستين انحل السعر فيها وأخصبت الأرض وحصل الرخاء..وبيع كل تسعة أقداح من القمح بدينار)..
………………………………………………..
4-الدولة الفاطمية: 362هـ / 973م - 576هـ / 1171م
كان دخول جوهر الصقلي مصر عام 358هـ في أوج
الأزمة الاقتصادية التي أطاحت بالإخشيديين وكانت الأحوال في الحضيض..وبرز
ربما لأول مرة في التاريخ الإسلامي تزييف النقود!!..فقد تم تزييف
الدينار!!..
يقول المقريزي:
(في سنة 359هـ ظهر في مصر ما يسمى بالدينار الأبيض (بمعنى المزيف) وكانت
قيمته عشرة دراهم ولم تستطع السلطات منع تداوله فقرر جوهر الصقلي خفض
قيمته ليكون بستة دراهم فعم البلاء وافتقر خلق كثير..
ومما يذكر أيضا هو وقوع وباء عظيم بمصر عام 360هـ..فما كادت مصر تستفيق
من الأزمة الاقتصادية التي أودت بالإخشيديين حتى ألم بها الوباء..يقول
المقريزي:
(في المحرم من سنة 360هـ اشتد الوباء والأمراض بالقاهرة..وبلغ مد الوباء
درجة كبيرة من العنف فكثر الموت حتى عجز الناس عن تكفين الأموات ودفنهم
فكانوا يطرحون موتاهم في النيل ولا شك أن اقتراف الناس لتلك الخطيئة في حق
موتاهم كان يعود عليهم بمزيد من البلاء فقد أدى ذلك إلى انتقال العدوى
وتفشي الوباء..وفني نصف سكان مصر..
أما الدولة الفاطمية ذاتها فقد كانت في بدايتها بداية خير ورخاء لمصر
لحنكة المعز لدين الله ومن بعده ابنه العزيز بالله في تصريف أحوال الرعية
ووضع الإصلاحات الاقتصادية..ومرت فترة حكمهما دونما أزمات بل عم الرخاء
البلاد..ومما يذكر أنه في عهد العزيز بالله أعقب الغلاء سنة 372هـ وباء
شديد بمصر أفنى خلقا كثيرا لا يحصى عددهم واستمر هذا الوباء متفشيا حتى
العام التالي..
ثم تولى الحاكم بأمر الله الحكم وهو ابن 11سنة ونصف..
وحدث في عهده العجب العجاب لاستخفاف الجنود به من ناحية ومحاولته إثبات صرامته من ناحية أخرى..
من ذلك أنه نهى عن بيع الفقاع -شراب من الشعير- والملوخية والترمس
والسمك الذي لا قشر له وضرب عنق من فعل ذلك.. ونهى عن بيع الزبيب ونهى
التجار عن حمله إلى مصر ثم جمع كمية كبيرة أحرقها على شاطئ النيل وأنفق
على إحراقها فقط دون قيمتها خمسمائة دينار ومنع بيع العنب وقطع الكروم
وأحرق ما كان في المخازن من جرار العسل فكسرت وقلبت في النيل حتى امتلأ بها
ورفع المكوس على الغلات ثم أعادها ثم رفع بعضها وأبقى البعض
الآخر..وتلاعبت الحكومة بالناس فصكت دراهم ودنانير جديدة وأمرت الناس
باستبدالها بالقديمة ما أدى لتربح الحكومة وخسارة الناس ما يعادل 60% من
القيمة الفعلية لأموالهم..كما اشتغل الوزراء بتجارة الغلال وتلاعبوا في
الأسعار لتحقيق أعلى ربح..وأعقب الغلاء وباء في سنة 398هـ فأفنى كثيرا من
أهل مصر واستمر تفشيه حتى آخر سنة 399هـ فتزايدت الأمراض وعزت الأدوية
وكثر الموت..)
كما ذكر ابن أيبك(12) في كتابه (اللقط الباهرة في خطط القاهرة)عن سنة 416هـ:
(أكل الفأر زرع مصر حتى أتى عليه وبطبيعة الحال كان إتلاف المحاصيل يؤدي
إلى رفع أسعار المتبقي منها ويظهر الغلاء وفضلا عن هذا فقد كانت الفئران
تنقل الطاعون وتؤدي إلى تفشيه فتهلك أعدادا غفيرة من الناس والماشية الأمر
الذي كان يؤدي لحدوث المجاعات..)
وهذا بالإضافة إلى ثورة أبي ركوة الأموي واستيلائه على الفيوم..يقول ابن أيبك:
(كانت الثورات مصدرا للمجاعات طيلة تاريخ مصر..فمثلا ثورة أبي ركوة
الوليد بن هشام الأموي الذي خرج بنواحي الفيوم في خلافة الحاكم بأمر الله
الفاطمي فاضطربت الأسعار وغلت وعدم الخبز وشح الدقيق وتزاحم الناس على
روايا الماء واضطربت الأحوال المالية فتدخلت السلطات بالشدة ونودي في
الأسواق:
(أي أحد زاد في السعر فقد أوجب على نفسه القتل فتراجعت الأسعار إلى حدها)..)
كذلك فإن قصور فيضان النيل أدى إلى القحط والغلاء الفاحش في الأسعار..يقول المقريزي:
(وصل سعر الدينار إلى 34 درهم.. وبلغ القمح كل ويبة أربعة دنانير والأرز
كل ويبة بدينار ولحم البقر رطل ونصف بدرهم ولحم الضأن رطل (17)بدرهم
والبصل عشرة أرطال بدرهم والجبن ثماني أواق(18) بدرهم وزيت الأكل ثماني
أواق بدرهم..والدقيق الرطل بدينار..والخبز كل رطلين بدرهم وربع..ولم يجد
الفقراء والمساكين ما يطعمون به أولادهم سوى العسالج الخشنة من القنبيط
التي ينزعها البقالون عن رؤوس الكرنب ويرمونها فيَقتات بها الفقراء مع
القليل من كسب اللوز وكسب السمسم..وغلت روايا الماء لتعذر علف الدواب
وانعدام من يسقي عليها فبيعت رواية الجمل بثلاثة دراهم وراوية البغل
بدرهمين وتقاضى الطحانون أجرا عن طحن القفة خمسة دراهم..
وغلت القطاني كلها وجميع الحبوب وحل بالناس ضر ومسغبة.. وكثرت حوادث
النهب التي قام بها عبيد الدولة وبعض العربان حتى أنهم نهبوا بلدة أشمون
ثم نهبوا ساحل الفسطاط.. فتحارس الأهالي منهم وتخندقوا واشتبكوا معهم في
عدة وقائع وأُغلقت العديد من الحوانيت وأُخليت بعض الدور وانقضت السنة
والناس في أشد أنواع البلاء
ثم انعدم الخبز وانعدمت الأقوات .. وهلكت الماشية..وقام الخبثاء بتخزين
الغلال وبيعها في السوق السوداء.. فعمت المجاعة وكثر الموت نتيجة سوء
التغذية ومات خلق كثير من الجوع ..وخرج الخليفة في موكبه فتجمهر الناس
عليه وكادوا يفتكون به لولا حرسه الذين استطاعوا تهريبه إلى القصر والناس
يهتفون:
(الجوع..الجوع..ما هكذا فعل بنا أبوك ولا جدك)
فأمر الخليفة بضرب عنق كل من يخزن الغلال وحرق داره ونهب أمواله..فخاف
الخزانين وأرشدوا المحتسب إلى 150 مخزنا سريا لتخزين القمح..وأخرجوا ما
عندهم فتخففت الوطأة..
ثم أمر بالخبازين والطحانين فجمعوا وضربوا بالسياط في الميدان وشهر بهم..فانحلت الأزمة قليلا..
وفي سنة 406هـ زاد النيل زيادة كبيرة تخطت حد الاستبحار حتى غرق المقياس
وامتلأ كل مكان من القاهرة بالماء ولم يبق طريق يسلك إليها إلا من
الصحراء وغرقت الضياع والبساتين..)
ثم تولى الظاهر لإعزاز دين الله الحكم خلفا لأبيه الحاكم عام 414 هـ
وكان أول من سن قوانين للحد من نفوق الماشية مثل حظر ذبح الإناث..ومنع ذبح
الأبقار السليمة التي تصلح للحرث..وفرض العقوبات بالغرامة بل والسجن في
بعض الأحيان على المخالفين..
ومما يذكر في عهده الوباء الرهيب الذي عم مصر قاطبة فكان يشبه الوباء الذي حدث أيام جوهر الصقلي..
يقول المقريزي:
(وفي خلافة الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي
فشت الأمراض وكثر الموت في الناس في سنة 415هـ وانشغل الناس بما هم فيه من
وباء عن الاحتفال بليلة الميلاد وتواتر الوباء والموت حتى لم يكن يخلو
منزل واحد من عدد من المرضى وامتد الوباء إلى الواحات سنة 417هـ فحل
بأهلها جدري عظيم مات به خلق كثير من أهلها ثم ثار بأهل مصر رعاف عظيم في
العام نفسه واختتمت خلافة الظاهر بوباء آخر حل بمصر سنة 426هـ لم يعش
الظاهر بعده طويلا إذ توفي في نصف شعبان سنة 427هـ..)
ثم تولى المستنصر بالله الحكم عام 427هـ بعد وفاة أبيه الظاهر..وهو ابن
السابعة من عمره..وشهد عصره أقسى القحوط والمجاعات التي مرت على مصر طيلة
تاريخها على الإطلاق..ولكني لن أذكر شيئا عنه الآن بل سأفرد له مقالا
كاملا سترون وأنتم تطالعوه أنه يستحق الحديث عنه باستفاضة..
ثم تولى الخلافة المستعلي بالله خلفا لوالده المستنصر..وقد حدث زلزالين
شديدين بمصر في عامين متتاليين عامي 487 و488هـ في مستهل خلافته فهدمت دور
كثيرة وفني خلق كثير وخربت القاهرة وصارت أطلالا..
ثم تولى الآمر بأحكام الله الخلافة..وولى الأفضل بن بدر الجمالي الوزارة خلفا لوالده أيضا..
يقول ابن عذارى المراكشي:
(وأثناء ولاية الآمر بأحكام الله المنصور حدث في سنة 490هـ وباء في
أعقاب غلاء هذا العام ثم امتد إلى العام التالي فمات خلق كثير وفي سنة 493
عم أكثر البلاد الطاعون نتيجة أن وفد على مصر أعداد كبيرة من سكان البلاد
الشامية هربا من الفرنج والهجمات الصليبية على الشام وكانوا يحملون
الأوبئة فعم الوباء البلاد ومات بمصر خلق كثير)..
يقول المقريزي:
( في سنة 497هـ عز القمح بمصر ثم هان فبيع أولا كل مائة إردب بمائة
وثلاثين دينارا فذهب الأفضل إلى القائد عبد الله بن فاتك - الملقب بعد ذلك
بالمأمون البطائحي- وولاه على الحسبة بغية تدبير الحال فختم على مخازن
الغلات وأحضر أربابها وخيرهم في أن تبقى غلاتهم تحت الختم إلى أن تصل
الغلة الجديدة أو يفرج عنها وتباع كل مائة إردب بثلاثين دينارا فمن أجاب
أفرج عنه وباع بالسعر المذكور ومن لم يجب أبقى الختم على حواصله وقدر ما
يحتاج إليه الناس في كل يوم من الغلة وقدر الغلال التي أجاب التجار إلى
بيعها بالسعر المعين وما تدعو إليه الحاجة بعد ذلك بيع من غلات الديوان
على الطحانين بذات السعر..فلم يزل الأمر على ذلك إلى أن دخلت الغلة
الجديدة فانحلت الأسعار..واضطر أصحاب الغلة المخزونة إلى بيعها خشية من
السوس فباعوها بالنذر اليسير وندموا على ما فاتهم من البيع بالسعر الأول..
وفي سنة 515هـ هبت ريح سوداء على مصر واستمرت ثلاثة أيام فأهلكت خلقا
كثيرا من الناس والدواب والأنعام وأتلفت المزروعات والمحاصيل..
وحدثت في خلافة الحافظ لدين الله عبد المجيد أكثر من أزمة اقتصادية
أولاها وقعت بين سنتي 531هـ - 532هـ فكانت غلاء شنيع وقحط ذريع... إلا أنه
لم يستمر فإن الأفضل كان قد ركب إلى الجامع العتيق بمصر وأحضر كل من
يتعلق به ذكر الغلة وأدب جماعة من المحتكرين ومن يزيد في الأسعار ووظف
عليهم القيام بما يَحتاج إليه في كل يوم وباشر الأمر بنفسه وأخذ فيه
بالحد..فلم يسع أحد خلافه ولم يزل الحال كذلك إلى أن من الله تعالى
بالرخاء وكشف عن الناس ما نزل بهم من البلاء..
ثم حدث وباء في سنة 536هـ كثر فيه الموت وامتد وعظم في العام التالي حتى هلك فيه خلق لا يحصى..
وفي شعبان من ذات السنة غلت الأسعار وعدم القمح والشعير فبلغ القمح
تسعين درهما للإردب والدقيق مائة وخمسين الحملة (الجوال) والخبز ثلاثة
أرطال بدرهم والشعير بسبعة دراهم الويبة والزيت الطيب الرطل بثلاثة دراهم
والجبن كل رطل بدرهمين والبيض كل مائة بعشرة دراهم والزيت الحار الرطل
بدرهم ونصف والقلقاس كل رطل بدرهم والدجاج والفراريج لا يقدر على شيء منها
لغلوها البالغ..
وفي خلافة الفائز بنصر الله في سنة 549هـ وقع غلاء بوزارة الصالح طلائع
بن رزيق بلغ فيه إردب القمح خمسة دنانير لقصور ماء النيل عن الوفاء وكان
بالمخازن من الغلات ما لا يحصى فأخرج جملة كثيرة من الغلال وفرقها على
الطحانين وأرخص أسعارها ومنع من احتكارها وأمر الناس ببيع الموجود منها
وتصدق على جماعة من الفقراء والمتجملين وتصدق الأمراء وذوو الجاه واليسار
بما نفس عن الناس ما هم فيه من بلاء وسرعان ما انحلت الأزمة وعم الرخاء..
أثبت الصالح طلائع بن رزيق قدرة في إدارة شؤون الدولة الفاطمية.. فلما
قتل ساءت أحوال الفاطميين في خلافة العاضد بالله آخر خلفاء الفاطميين ووقع
الصراع الشهير بين شاور وضرغام على السلطة فأصبحت مصر ميدانا للتدخل
الصليبي الذي أدى إلى تدخل نور الدين محمود بدوره لدفع الصليبين عن
الاستيلاء على مصر فوقعت معارك وحروب كان لها بلا ريب أسوأ الأثر على أحوال
البلاد الاقتصادية ووقعت الفسطاط فريسة هذا الصراع إذ تخرجت على يد شاور
الذي أمر بإحراقها كيلا تقع في أيدي الصليبيين لذلك عانت البلاد من أزمة
اقتصادية مزمنة في ظل هذه الأحوال السياسية المتردية وربما يفسر لنا هذا
رضاء الناس بسقوط الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي وارتياحهم
لهذا المصير الذي آلت إليه حتى قيل: إنه لم ينتطح في سقوطها عنزان..)