الخميس، 17 يناير 2013

من جرائم الفرنسيس فى مصر....حتى لاننسى



"فلما كان يوم الاربعاء العشرون من شهر محرم وردت مكاتبات من الثغر ومن رشيد ودمنهور بان في يوم الاثنين ثامن عشره وردت مراكب وعمارات للفرنسيين كثيرة فارسوا في البحر وارسلوا جماعة يطلبون القنصل وبعض اهل البلد فلما نزلوا اليهم عوقوهم عندهم فلما دخل الليل تحولت منهم مراكب الى جهة العجمي وطلعوا الى البر ومعهم آلات الحرب والعساكر فلم يشعر اهل الثغر وقت الصباح الا وهم كالجراد المنتشر حول البلد فعندها خرج اهل الثغر وما انظم اليهم من العربان المجتمعة وكاشف البحيرة فلم يستطيعوا مدافعتهم ولا امكنهم ممانعتهم ولم يثبتوا لحربهم و انهزم الكاشف ومن معه من العربان ورجع أهل الثغر الى التترس في البيوت والحيطان ودخلت الافرنج البلد وانبث فيها الكثير من ذلك العدد كل ذلك واهل البلد لهم بالرمي يدافعون عن انفسهم وأهليهم يقاتلون ويمانعون فلما أعياهم الحال وعلموا انهم مأخوذون بكل حال وليس ثم عندهم للقتال استعداد لخلو الابراج من آلات الحرب والبارود وكثرة العدو وغلبيته طلب أهل الثغر الامان

فآمنوهم ورفعوا عنهم القتال ومن حصونهم انزلوهم ونادى الفرنسيس بالامان في البلد ورفع بنديراته عليها وطلب أعيان الثغر فحضروا بين يديه فالزمهم بجمع السلاح واحضاره اليه وان يضعوا الجوكار.

ولما وردت هذه الاخبار مصر حصل للناس انزعاج وعول اكثرهم على الفرار والهجاج وأما ما كان من حال الامراء بمصر فان إبراهيم بك ركب الى قصر العيني وحضر عنده مراد بك من الجيزة لانه كان مقيما بها واجتمع باقي الامراء والعلماء والقاضي وتكلموا في شأن هذا الامر الحادث الى اسلامبول وان مراد بك يجهز العساكر ويخرج لملاقاتهم وحربهم و انفض المجلس وأخذوا في الاستعداد للثغر وقضاء اللوازم والمهمات في مدة خمسة ايام فصاروا يصادرون الناس ويأخذون أغلب ما يحتاجون اليه بدون ثمن .

وفي يوم الاثنين وردت الاخبار بان الفرنسيس وصلوا الى دمنهور ورشيد وخرج معظم أهل تلك البلاد على وجوههم فذهبوا الى فوة نواحيها والبعض طلب الامان وأقام ببلده وهم العقلاء وقد كانت الفرنسيس حين فلولهم بالاسكندرية كتبوا مرسوما وطبعوه وأرسلوا منه نسخا الى البلاد التي يقدمون عليها تطمينا لهم ووصل هذا المكتوب مع جملة من الاسارى الذين وجدوهم بمالطة وحضروا صحبتهم وحضر منهم جملة الى بولاق وذلك قبل وصول الفرنسيس بيوم او بيومين ومعهم منه عدة نسخ منهم مغاربة وفيهم جواسيس وهم على شكلهم من كفار مالطه ويعرفون باللغات."

و قد جاء بالمرسوم أن بونبات جاء ليحرر المصريين من ظلم الممااليك و أنه محب للإسلام و للسلطان و أنه أكثر إيمانا من المماليك و من نص ذلك فيه:

" وقولوا للمفترين انني ما قدمت اليكم الا لاخلص حقكم من يد الظالمين وانني اكثر من المماليك اعبد الله سبحانه وتعالى واحترم نبيه والقرآن العظيم وقولوا ايضا لهم ان جميع الناس متساوون عند الله فان كانت الارض المصرية التزاما للماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم"

و جاء أيضا فى المرسوم:
"كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار ".

فيضان الثورة :
كان طائف الثورة يطوف فى مختلف البلاد ، بحيث كانت إذا أخمدت من جهة انبعثت من جهة أخرى، قال ريبو أحد مؤرخو الحملة الفرنسية فى هذا الصدد: " كان الجنود يعملون على إخماد الثورة بإطلاق الرصاص على الفلاحين، و فرض غرامات على البلاد، و لكن الثورة كانت كحية ذات مائة رأس، كلما أخمدها السيف و النار فى ناحية ظهرت فى ناحية أخرى أقوى و أشد مما كانت، فكأنها كانت تعظم و يتسع مداها كلما ارتحلت من بلد إلى آخر."

وقال فى موضع آخر يصف حالة الشعب النفسية و مركز الفرنسيين :"إن مصر قد فوجئت بالحملة الفرنسية، فأخذت تنتفض و تجاذب للتخلص من قبضة الفاتح الحديدية، لقد كنا نرابط فى مصر و نحتلها احتلالا عسكريا و على الرغم مما بذلناه من الجهود ليقبلنا الشعب كما يتقبل محرريه! فقد بقيت سلطتنا قائمة على القوة لا على الإقناع ، و كان اختلاف الدين و اللغة و الطباع و العادات ممايجعل الامتزاج بين الغالب و المغلوب عسرا بعيد الحتمال، فكانت سياستنا قائمة على إكراه الشعب على الإذعان بالحزم مرة، و بالقوة مرة، و قمع كل ثورة، و مكافأة من يخدم السلطة الفرنسية ،
و لإدراك هذه الغاية وزع بونبارت الجيش على مختلف أنحاء القطر لإخضاعها و جعلها موضع مراقبة دقيقة، و كان قواد الفرق فضلا عن اختصاصهم ال حربية، يتوالون الإشراف على الأعمال الإدارية و المالية فى مديرياتهم و يراقبون جباية الأموال و الغرامات فى الأقاليم."

أولا: المقاومة فى الوجه البحرى:
بدأت المقاومة فى الوجه البحرى قبل احتلال الفرنسيين القاهرة فى 24 تموز 1798 ، و استمرت هذه المقاومة و لئن هدأت عقب احتلال القاهرة لكنها لم تستسلم للاحتلال الفرنسى . فما اندلعت ثورة القاهرة الأولى فى 21 تشرين الأول 1798، حتى انتقلت روح الثورة إلى الوجه البحرى . و لا غرو فى ذلك فالوجه البحرى كان أول منطقة مصرية قصدتها الحملة الفرنسية التى نزلت على شواطئه، فكانت الإسكندرية أول مدينة يحتلها الفرنسيين فى 2 تموز 1798 ، و فى 9 تموز 1798 قامت الحملة من الإسكندرية فى طريقها إلى القاهرة فاصطدمت بمقاومة المصريين فى البحيرة.

خريطة توضيحية للحملة الفرنسية على مصر وسوريا

1-فى البحيرة:

كانت البحيرة أول مديرية اجتازها الجيش الفرنسى فى زحفه إلى القاهرة ، فلاقت من وراءه اجتيازه أذى كبير من اعتداء الجنود و نهبهم القرى و المنازل . و لكن مالبثت المتاعب أن لحقت بجيش الاحتلال . فقد أخذ رجال المقاومة المصرية يتصيدون الدوريات الفرنسية و منها دوريات كانت تحمل باريد نابليون ، و تعرض الفرنسيون لشدة العطش بسبب ردم العربان الآبار فى هذه المنطقة التى و صفوها بالصحراء ، مع أنه ليس هناك إجماع من قبل الجغرافيين على صحة هذا الوصف.
و ما إن وصل الجيش الفرنسى إلى دمنهور حتى إصدر نابليون أوامره بمواصلة الزحف للرحمانية التى شهد فيها الجنود الفرنسيين نهر النيل لأول مرة ، فكانت فرحتهم كبيرة حتى هناك بعضهم لقى حتفه لكثرة شربهم من مياهه .

و فى 13 يوليو 1798 ، و قعت معركة شبراخيت بين جيش مراد بك و كان تعداده 12 ألف رجل ، منهم ثلاثة آلاف من فرسان المماليك و الباقون من الفلاحين المصريين الذين تسلحوا بالعصى و البنادق القديمة ، و بين الجيش الفرنسى الذى كان ينقصه الفرسان ، و مع ذلك انتصر على جيش مراد بك الذى يجهل الأساليب الحديثة فى القتال . و تبين أن القسط الذى احتله الأهالى فى هذه المعركة كان كبيرا بل كان أكبر من قسط المماليك.

ثم تابع الجيش الفرنسى زحفه قاصدا القاهرة و كان الأهالى يتعقبون فرق الجيش الزاحفة فيقتلون كل من يدركونه . و لقى الفرنسيون عناء كبيرا فى اجتياز هذه المرحلة ، و مع ذلك قاموا بنهب عدة قرى فى طريقهم للقاهرة .

و لئن هدأت المقاومة فى البحيرة عقب ورود الأخبار باحتلال الفرنسيين القاهرة ، فإن الأهالى كانوا يتحينون الفرص لمقاومة الفرنسيين و خاصة عندما علموا بنبأ ثورة القاهرة الأول مما ساعد فى تحركهم ضد الاحتلال الفرنسى فى نوفمبر 1798 ، فهاجموا قوافل الفرنسيين شمال البحيرة .

و يذكر الجبرتى عن موقعة شبراخيت:"
وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر وردت الاخبار بان الفرنسيس وصلوا الى نواحي فوة ثم الى الرحمانية واستهل شهر صفر سنة 1213 وفي يوم الاحد غرة شهر صفر وردت الاخبار بأن في يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر محرم التقى العسكر المصري مع الفرنسيس فلم تكن الا ساعة وانهزم مراد بك ومن معه ولم يقع قتال صحيح وانما هي مناوشة من طلائع العسكرين بحيث لم يقتل الا القليل من الفريقين واحترقت مراكب مراد بك بما فيها من الجبخانة والآلات الحربية واحترق بها رئيس الطبجية خليل الكردل وكان قد قاتل في البحر قتالا عجيبا فقدر الله ان علقت نار بالقلع وسقط منها نار الى البارود فاشتعلت جميعها بالنار واحترقت المركب بما فيه من المحاربين وكبيرهم وتطايروا في الهواء فلما عاين ذلك مراد بك داخله الرعب وولى منهزم وترك الاثقال والمدافع وتبعته عساكره ونزلت المشاة في المراكب ورجعوا طالبين مصر".

و فى 24 إبريل اندلعت فى البحيرة ثورة عظيمة- و كان بونبات فى حملته على سوريا- ذلك أن ظهر فيها رجل من طرابلس ادعى المهدية، و دعا الناس لقتال الفرنسيين. و ليلة 24 وصل دمنهور فأمر رجاله بالهجوم على الحامية الفرنسية فقتلوا رجالها جميعا و استولوا على السلاح و المدافع. و كان لهذا الانتصار أثر كبير فى نفوس أهالى مديرية البحيرة فزاد عدد أتباعه.
و كان فى الرحماية فرقة من الجيش الفرنسى فلما وصل أخبار استيلاء المهدى على دمنهور سار قائد الفرنسيين هناك للقضاء عليه فى 500 جندى.فوقعت معركة كبيرة بين الرحمانية و دمنهور اضطر بها القائد الفرنسى للانسحاب، و لكن الجنرال لانوس عاد و هزم رجال المهدى، و دخل دمنهور فى 10 مايو ، وفتك بالأهالى انتقاما و فر أتباع المهدى و لم يعرف إن كان قتل أو فر.


2-فى رشيد:
تعتبر مدينة رشيد مفتاح النيل على البحر المتوسط ، فهى تقع على الضفة الغربية من الفرع الغربى للنيل ، أى فرع رشيد كما تعتبر طريق المواصلات النيلية إلى داخل البلاد . و كان لها أهمية حربية كبرى لأنها صلة الاتصال الجيش الفرنسى بين القاهرة و الإسكندرية عن طريق النيل ، لأن المواصلات البرية كانت مهددة من جانب الأهالى بداخل البلاد.

احتل الفرنسيين رشيد فى 6 يوليو 1798 دون مقاومة ، بعد أن هرب الحكام المماليك منها عندما علموا بنبأ احتلال الإسكندرية . و عين نابليون الجنرال مينو حاكما لرشيد ، فهدأت له الأحوال أول الأمر . لكن مركزه ازداد حرجا بعد موقعة أبى قير البحرية (1-2أغسطس1798) لأن رشيد كانت من أولى المدن التى علمت بكارثة الأسطول الفرنسى و هزيمته فى خليج أبى قير ، كما كانت أكثر المدن تأثرا من وقوع هذه الكارثة ، فأخذت روح المقاومة فى نفوس سكانها .

و قويت روح الثورة فى ضواحي رشيد فى نوفمبر 1798 ، و ذلك فى اعقاب ثورة القاهرة الأولى التى لعبت دور المصدر الرئيسى لسريان الهياج و الثورة فى أنحاء البلاد . كما كانت السفن الإنجليزية و التركية توفد بعض الرسل إلى الشاطىء لتحرض الأهالى على الثورة . و هكذا تكرر هجوم المصريين على قوافل الفرنسيين فى جهات رشيد و أبى قير و شمال البحيرة .


3- فى الشرقية:


فر إبراهيم بك بمماليكه عقب انتصار الفرنسيين فى معركة امبابة (21 يوليو 1798) إلى جهة بلبيس عاصمة الشرقية . لكن نابليون وجد خطرا يتهدد مركز الفرنسيين من وجود هذه القوة فى شرق الدلتا و على مسافة 40 كم تقريبا من القاهرة ، فعزم على مطاردة إبراهيم بك لخلص له الوجه البحرى .
أضف لهذا اقتراب وصول قافلة الحج ليكتسب نفوس المصريين و و العالم الإسلامى ، ثم ليقنع شريف مكة و عرب الحجاز و اليمن أن وجود الفرنسيين فى مصر لا يقطع سبل الحج الذى هو مصدر أرزاقهم . بدأت طلائع الجيش الفرنسى تزحف يوم 2 أغسطس 1798 من القاهرة ، فاحتلوا الخانكة يوم 6 أغسطس . و فى الخانكة وثب الشعب على جنود الجيش الفرنسى و استولوا على سلاحهم و قتلوهم ، فانسحب 600 جندى من المنطقة إلى المرج و طلبوا النجدات ، ثم كروا عائدين إلى الخانكة فإذا هى خالية فأشعلوا فى البلدة النار .

و توالت التقارير على نابليون ، و كل الدلائل تدل على أنه لابد من قوة كبيرة لإخضاع هذه الجهات . سار نابليون نفسه إلى بلبيس ثم أسرع إلى الصالحية متعقبا بعض فلول المماليك دون أن يصحب سلاحه الثقيل معه ، و كاد نابليون و قوته ان تدمر فى هذه الملحمة التى استعمل بها السلاح الأبيض لولا أن أدركته النجدات ، و قتل و جرح عدد من الفرنسيين من بينهم ضباط كبار . ترك نابليون هذه الحملات التأديبية لقواده ، و عاد إلى القاهرة بعد أن أمر بأن تكون بلبيس مركزا عسكريا رئيسا .

و لكن وفرة القوات الفرنسية لم تمنع الأهالى من تكوين قوات فدائية أخذت تغير على المعسكرات راكبة خيولها ، و الزمت قوات العدو بأن تحتمى ببيوت بلبيس نفسها حتى أقبل المدد ، و بدأت المدفعية تعمل عملها فى رد جموع الفرسان المصريين .و بلغ عنف المعارك أن نهب المعسكر الفرنسى الرئيسى أكثر من مرة ، و على الرغم من أوامر نابليون باستعمال منتهى الشدة فى أخذ الرهائن و إعدامها و إحراق القرى ، فإن مقاومةالشرقية حملت قائد بلبيس أن يفاوض زعماء الثورة فى الصلح ، و لكن أحدا لم يقبل منه أقل من إخلاء المنطقة كلها، و استمرت الاضطرابات فى الشرقية خاصة بعد اندلاع ثورة القاهرة الأولى.

أما فى مارس 1977 و أثناء حملة بونبارت على الشام، قامت ثورة أخرى بالشرقية و هى ثورة أمير الحج. كانت و ظيفة إمارة الحج من الوظائف الكبرى فى القطر المصرى، و كان لا يتقلدها سوى كبار الأمراء و المماليك، و عندما جاءت الحملة أسند نابليون هذه الوظيفة لمصطفى بك بدلا من صالح بك الذى كان من أتباع مراد بك.
و عندما بدأ نابليون حملته على سوريا خيل لمصطفى بك أنه يستطيع بما له من مركز إمارة الحج أن يثير حربا على الفرنسيين فنادى بالجهاد،و امتد لهيب الثورة إلى مديريتى الشرقية و المنصورة . و كانت مظالم الفرنسيين من دوافع الثورة، و أصبحت الثورة أن تتحول لحركة عامة تهدد الجيش الفرنسى أثنا انشغال نابليون بسوريا.
و هكذا قضد الجنرال لانوس على رأس قوة من 600 جندى إلى الشرقية منبع الثورة، ففر أمير الحج لدمياط و بحث لانوس عن القرى التى شاركت بالثورة و أحرقها لتكون عبرة.

4-المقاومة فى المنوفية و الغربية :
عين نابليون الجنرال زايوتشك قومندانا للمنوفية ، و الجنرال فوجير قومندانا للغربية ، و أصدر تعليماته إليهم أن يتعاونوا على توطيد سلطة فرنسا فى هذه المديريات ، و أن يجردوا الأهالى من السلاح و يصادروا خيولهم و يعتقلوا أعيانهم رهائن ، كل ذلك لإخضاع البلاد و إلقاء الرهبة بها .

و كتب لقومندنا المنوفية يقره على إعدام خمسة من الأهالى فى كل قرية من القرى الثائرة ، و أمره أن تقدم كل قرية جوادين من خير الجياد ، و كل قرية لا تذعن لهذا الأمر و تمضى خمسة أيام على إعلامها به تفرض عليها غرامة ألف ريال ، و قد كان لهذه الأوامر الظالمة أثرها فى تأجيج نار الكراهية ضد الفرنسيين.


مقاومة غمريين و تتا :

سار قومندان الغربية فى قوة من الجند من القاهرة قاصدا منوف فى أغسطس سنة 1798 ، ثم غادرها قاصدا الغربية و اصطدم فى طريقه بمقاومة عنيفة من قريتى غمرين و تتا و هما بلدتان متجاورتان شمالى منوف.
ثار أهل القريتين ، و حملوا السلاح ، و أغلقوا الأبواب فى وجه الجند ، فحاول القائد الفرنسى عبثا أن يكره البلدين على فتح أبوابها فلم يستطع ، و لما أعيته الحيل طلب المدد من قومندان المنوفية الذى كان مرابطا بمنوف ، فأمده بقوة من جنوده ، و تعاونت القوتان على إخضاع القريتين بعدما دافع أهلها دفاعا شديدا ، و اشتد القتال بخاصة فى غمرين ، و اشتبك الأهالى و الجنود فى طرقاتها ، فانهمرت فيها الدماء و غطيت الأرض جثث القتلى ، قال أحد الضباط الفرنسيين :"جائنا المدد ، و تعاونت الكتيبتان على مهاجمة قرية غمرين ، فأخذناها عنوة بعد قتال ساعتين ، و قتلنا من الأهالى من أربعمائة إلى خمسمائة بينهم عدد من النساء كن يهاجمن الجنود ببسالة و إقدام، أما خسائر الفرنسيين فكانت قتيلا واحدا و اثنى عشر جريحا ، و لم تكن عندنا فؤوس،فكان ذلك من أسباب التى أخرتنا عن اقتحام أبواب القرية".

و بالنظر لهذا الموقف كيف كانت مشاركة النساء مع الرجال فى مقاتلة الفرنسيين و دفاعهم، و هذا أبلغ مايذكر عن استبسال شعب فى الدغاع عن كيانه، و أبلغ منه أن الشهادة جاءت من العدو .
بذلك استولى الفرنسيين أولا على غمرين ثم قصدوا إلى تتا فاستولوا عليها، و أضرموا النار فى القريتين عقابا لهم على الثورة .
و نفدت ذخيرة الجنود فى محاربتهم لبلدتى غمريين و تتا فعاد قائدهم إلى منوف ينتظر المدد و بقى هناك ثمانية أيام، و لما كان الفيضان قد بدأ يغرق الطرق فقد نزل بجنوده فى السفن ووصل إلى المحلة الكبرى من طريق ترعة مليج و استقر بها.


فى المحلة الكبرى:


كانت المحلة الكبرى عاصمة الغربية ، و هى يومئذ أكبر بلاد الدلتا فى اتساعها و مركزها الصناعى، و اشتهرت فى ذلك العصر (كشهرتها الأن) بنسيج الأقمشة الحريرية و القطنية. و كان عمال نسيج القطن قبل الحملة الفرنسية يبلغ عددهم فيها ألفى عامل فنزل عددهم مدة الحملة إلى خمسمائة و هذا يدل على تقهقر البلاد من الناحية الأقتصادية أثناء الحملة الفرنسية.
و قد رابط قومندان الغربية فى المحلة الكبرى، ثم انتقل منها خلال الحملة إلى سمنود التى اتخذها الفرنسيون عاصمة لمديرية الغربية و فضولها على المحلة الكبرى لوقوعها على النيل، و سهولة اتخاذها مركزا للمواصلات النيلية و الحركات العسكرية.

مقبرة الجنود الفرنسيين في حملة بونابرت بجوار فم الخليج - القاهرة


الثورة فى طنطا:

كانت طنطا كما هى الآن أكبر بلاد الدلتا من الوجهة التجارية، بلغ عدد سكانها فى ذلك العصر عشرة آلاف نسمة، و ترجع مكانتها إلى مركز تجارى و إلى ضريح السيد أحمد البدوى و مواسمه المعروفة، فكان يزورها سنويا فى أيام المولد الأحمدى نحو مائة ألف زائر من مختلف المدن و الأقطار .
ظهرت أعراض الهياج و الثورة فى طنطا أوائل أكتوبر سنة 1798 و أجمع أهلها عن الامتناع عن دفع الضريبة أو غرامة تفرض عليهم.
و كان نابليون ينظر إلى طنطا كمدينة مقدسة للمسلمين، تلى مكة و المدينة فى الأهمية و يستشعر احترامها محافظة على إحساس الأهالى ، فتحاشى أول الأمر أن يرسل إليها قوة من الجنود كيلا يصطدموا بالأهالى أو يعتدوا على الشعائر الدينية فتثور ثائرتهم، و لكن قومندان الغربية رأى روح الهياج و التمرد تقوى و تشتد، فأرسل إليها كتيبة من الجنود و عهد إليها اعتقال زعماء المدينة وأخذهم رهائن، و كلفها كذلك أن تخضع الأهالى فيما جاورها و فى البلاد الواقعة على طريق الجنود و أخذ الرهائن منها، و كان دعاة الثورة فى القرى يحرضون الأهالى على العصيان.
وصلت الكتيبة تجاه طنطا يوم 7 أكتوبر 1798 و رابط قائدها بجنوده و كلف حاكمها سليم الشوربجى أن ينفذ إليه أربعة من كبراء المدينة يكونون رهائن، فجاء بأربعة من أئمة مسجد السيد البدوى، و رفض أكابر المشايخ أن يحضروا معه ليعطوا القائد الفرنسى موثقا بالمحافظة على السكينة فى طنطا – و كان المولد قائما آنذاك – و قد تجمع فيه خلق كثير من أرجاء البلاد، فلم يكد قائد الكتيبة ينزل الرهائن الأربعة إلى المراكب ليبعث بهم للقاهرة حتى هرعت الجماهير مسلحين بالبنادق و الحراب يصيحون صيحات الغضب و السخط، رافعين الرايات و البيارق ، فلما رآها أهالى البلاد المجاورة أقبلوا من كل حدب و صوب و انضموا إلى الثائرين و فيهم 150 من الفرسان، فاندفعت هذه الجموع على الكتيبة و كادت تستولى على على المراكب التى معها فقابلتها الكتيبة بنار شديدة من البنادق الحديثة، فانهزمت الجموع إلى المدينة ، و عادت غير مرة تهاجمها ثم ترتد إلى داخل البلد ، و رأى قائد الكتيبة أن لا سبيل إلى تعقب الثائرين فى مدينة كبيرة كطنطا لقلة عدد جنوده و افتقاره للمدفعية ، فلزم خطة الدفاع و اقتصر على منع الثائرين أن يحيطوا بجنوده و على الدفاع على مراكبه، و تمكن من إنزال معظم قوته بالسفن و معهم الرهائن، ثم أقلعت سفنه ، و ترك قوة من رجاله على شاطئ الترعة لمنع الثوار أم يلحقوا به، و انسحب الثوار بعد المعركة دامت أربعة ساعات، و قد قرر القائد الفرنسى عدد الثوار بعدة آلاف، و قدر خسائرهم بثلثمائة بين قتيل و جريح، و طلب من نابليون معاقبة أهالى طنطا لأن معظم الثوار كانوا منهم، و ألح فى طلب المدد من الرجال و المدافع لإخضاعهم.
و لكن نابليون جنح وقتا ما إلى الحكمة، و آثر أن يتريث و لا يتمادى فى التقتيل و التنكيل، إذ خشى عاقبة انفجار الهياج فى مدينة لها حرمتها عند الأهلين ، و كان القائد قد نبه نابليون إلى أن الثوار قد استعانوا بالعرب، فكفه نابليون أن يأخذ الرهائن منهم لإخضاعهم، و إن لم يذعنوا فالينكل بهم.
و قد عزم نابليون على تجريد الحملة عليهم بقيادة قائد جديد عينه قومندانا لمديرية المنوفية، و أمره أن يسير إلى العرب فى سنباط حيث يرابطون بها و يحاربهم، و ينتزع منهم الرهائن و الأسلحة.


المقاومة فى عشما:

كان القائد الجديد الجنرال لانوس يهاجم حينئذ قرية عشما و هى تابعة لمركز شبين الكوم لإخضاع زعيمها المشهور فى ذلك العهد بسطوته و شدة بأسه و اسمه "أبو شعير" و قد اتهمه الفرنسيون بعدائه لهم ، و ممالأته على الجنود، فجرد القائد الفرنسى حملة عليه ، و سار ليلة 20 أكتوبر 1798 قاصدا قرية عشما فى كتيبة من الجنود، فوصلها الساعة الثانية بعد منتصف الليل، و فاجأ المخفرين من مخافر التى وضعها أبو شعير حول القرية لحراستها، فتخطاهما حتى وصل إلى مدخل البلد، و هناك التقى بمخفر ثالث أطلق رجاله الرصاص على الفرنسيين ، لكن الجنرال لانوس تمكن من تطويق القرية بالجنود و ماحاصرة منزل أبو شعير الذى وصفع لانوس بأنه قصر محصن تحصينا تاما بالنسبة لحالة البلاد، و قد علم أبو شعير بوصول الفرنسيين فركب فى رهط من رجاله استعدادا للقتال،
و سعى لانوس فى أخذه بالحسنى ، و لكته أجاب بإطلاق الرصاص على الفرنسين ، فأمر الجنرال لانوس رجاله باقتحام أسوار القصر ، و أدرك أبو شعير أنه واقع لامحالة فى أسر الفرنسيين ، فأمر جنوده أن يطلقوا النار على الجنود ليشغلهم عن نفسه و يلوذ بالنجاة.

و قد تمكن من تسلق الأسوار ثم ألقى بنفسه فى الترعة و قطعها سباحة، و ما إن وصل إلى الشاطئ الآخر حتى أصابته رصاصة جندلته فمات شهيدا، و كان بطلا من أبطال المقاومة الأهلية ، و أعتبر الفرنسيين أن القضاء عليه انتصارا كبيرا ، فقد ابتهج الجنرال لانوس ، و أرسل إلى نابليون بتاريخ 23 أكتوبر ينبئه بمصرعه، و يذكر عنه أنه لحق الجيش الفرنسى منه أذى كبير و أنهم وجدوا بمنزله بعض شارات للضباط الفرنسيين، و قد ذكر لانوس عن أبى شعير أنه إذا مشى سار معه ألف و مائتا رجل فى سلاحهم ، و اعترف فى رسالته لنابليون أنه لولا مفاجئته لأبى شعير فى قريته لما استطاع أن يظهر عليه، و لو هو علم بمقدم الفرنسيين و أعد لملاقاتهم ، لأصابهم منه جهد و شدة و أذى، و قد استولى لانوس على ماوجده فى القصر من أسلحة، و منها ثلاثة مدافع و عدد كبير من البنادق .

و كانت الملاحة فى الترع بدأت تتعطل لنقص مياه النيل، على حين أن المواصلات فى البر متعذرة ، فتأخرة الحملة التى كلف بها الجنرال لانوس إلى أوائل نوفمبر حتى جاءه المدد من القاهرة.

و لما وصله المدد سار بجنوده و أوقع بكثير من القرى المحازية للنيل بحجة مهاجمتها للسفن الفرنسية على فرع رشيد، و بلغ طنطا دون أن يلقى مقاومة، و أمكنه أن يحصل الضرائب و شتت قوات العرب التى كانت تشد أزر الثوار ، لكنه لم يستطع أن يقهرها أو يتغلب عليها ، ثم عاد إلى منوف.

ويذكر الجبرتى:" سافروا الى جهة بحرى بسبب ان بعض البلاد قام على عسكر الفرنساوية وقت الفتنة وقاتلوهم وضربوا ايضا مركبين بها عدة من عساكرهم فحاربوهم وقاتلوهم فلما ذهب اولئك المغاربة سكنوا الفتنة وضربوا عشما وقتلوا كبيرها المسمى بأبن شعير و نهبوا داره ومتاعه وماله وبهائمه وكان شيئا كثيرا جدا واحضروا اخوته وأولاده وقتلوهم ولم يتركوا منهم سوى ولد صغير جعلوه شيخا عوضا عن ابيهم وسكن العسكر المغربي بدار عند باب سعادة ورتبوا له من الفرنسيس جماعة يأتون اليهم في كل يوم ويدربوهم على كيفية حربهم وقانونهم ومعنى أشاراتهم في مصافاتهم فيقف المعلم والمتعلمون مقابلون له صفا وبأيديهم بنادقهم فيشير اليهم بألفاظ بلغتهم كان يقول مردبوش فيرفعونها قابضين بأكفهم على أسافلها ثم يقول مرش فيمشون صفوفا الى غير ذلك وفيه سافر برطلمين الى ناحية سرياقوس ومعه جملة من العسكر بسبب الناس الفارين الى جهة الشرق فلم يدركهم وأخذ من في البلاد وعسف في تحصيها ورجع بعد أيام "



5- فى المنصورة:

على أثر تعيين الجنرال فيال قومندانا لمديريتى المنصورة و دمياط فى أوائل أغسطس 1798 مضى بفرقته إلى مديريتين لإخضاعهما. فقصد أولا المنصورة ثم احتلها و ترك فيها حامية مكونة من 120 جنديا و اتجه إلى الشمال . لكن أهل المدينة لم يحتملوا منظر العدو بينهم فثاروا على معسكر هذه الحامية فى هجوم خاطف، فبينما كان الجنود فى معسكرهم يوم 10 أغسطس 1798 دخلت المدينة جموع كبيرة من أهالى البلاد المجاورة ، و كان اليوم يوم السوق العامة ، فاختلطوا بأهل المدينة كلها بالثورة ،رجالا و نساء ، و كان النساء يحرضن أزواجهن على أن يثوروا بالفرنسين، و لما شعر الجنود بالخطر امتنعوا فى معسكرهم فحاصره الثائرون و شرعوا فى دكه و أشعلوا فيه النار، فاضطر الجنود إلى إخلائه هاربين و إلى وانحدروا إلى السفن قاصدين الفرار، و لكن الجموع تكاثرت عليهم و أبى رجال السفن أن يحملوهم، فالتجأوا إلى البر و قصدوا إلى دمياط، و لكن الثوار أخذوا عليهم الطريق ثم أبادوهم عن آخرهم ، إلا امرأة أحد الضباط و ابنتها أبقوا عليهم، و فى المراجع الفرنسية أن الفتاة قد اشتراها شيخ العرب "أبو قورة" بميت العامل(مركز أجا) و تزوج بها فلبثت عنده حتى مات عنها سنة 1808 فى عهد محمد على،و بقيت حافظة على عهده قائمة على تربية أولادها منه .

أشعلت واقعة المنصورة نار الثورة و الهياج فى البلاد المجاورة ، ثم وصل الجنرال دوجا وجنوده جنوب المنصورة يومى 17 و 18 أغسطس سنة 1798 الذى عينه نابليون قومندانا لمديرية المنصورة، فلما علم عند وصوله بما حل بجنود الحامية توقع أهل المدينة انتقاما شديدا،فكتب الأعيان رسالة إلى ديوان القاهرة يبرؤون من الاعتداء على الجنود ينسبون ذلك إلى الفلاحين و العرب الذين اقتحموا المدينة يوم الواقعة و ذهب قاضى المنصورة خصيصا إلى القاهرة ليدافع عن مسلك سكان المدينة و قد علم نابليون بنبأ الحادثة و جائته رسالة أعيان المنصورة التى كتبوها للديوان، فبعث إلى الجنرال دوجا منع عقاب أهلى المنصورة عقابا شديدا ، و يأمره أن يقتل تنسعة أو عشرة من أعيانها . و كان الجنرال رجلا حكيما فحقق فى المعتدين و منهم رجلان كانت لهما شهرة فى تلك الجهات و هما الأمير مصطفى و على العديسى ،فاكتفى الجنرال دوجا بالحكم على اثنين من أهالى المنصورة بالإعدام ، لثبوت اشتراكهما فى القتل ، و أنفذ الحكم فيهما و طافوا برأسيهما فى شوارع المدينة عبرة و إرهابا. و أهذ الجنرال دوجا يتأهب لتعقب المعتدين فى بلاد البحر الصغير و القبض على الأمير مصطفى و على العديسى. و تجريد حملة عسكرية لمعاقبة القرى التى اشتركت فى الاعتداء على الجنود.

و طلب نابليون إلى الجنرال دوجا إخضاع بلاد مديرية المنصورة ، و أخذ رهائن من كل قرية اشتراك أهلها فى الاعتداء على الجنود، ثم إحراق القرى التى يرى أنها كانت أبلغ فى الاعتداء، و أمر نابليون بفرض غرامة ثلاثة آلاف ريال على أعيان المنصورة عقابا لهم على سوء صنيعهم، و فرض ألفى ريال على القرى التى اعتدت على الجنود.

و لقى الفرنسيون عناء كبيرا فى إخضاع مديرية المنصورة، فقد اشتد فيها المقاومة و امتنع كثير من البلاد عن دفع الضرائب. و كان محصلوا الأموال الأميرية إذا ذهبوا لقرية لجباية الضرائب أو مصادرة أملاك يقابلون بالرصاص رميا ، أو بالعصى ضربا ، و فى بعض الأحيان كانوا يصطحبون بعض الخفراء لحراستهم ، فلا يعصمهم ذلك أن يلقوا نفس المقابلة، و عطل الفيضان حركات نقل الجنود فى البر، فساعد هذا العامل على فيضان روح الثورة فى القرى، و اضطر الجنرال دوجا إلى تأخير ماعهد إليه من إخضاع ذلك الإقليم و معاقبة القرى التى ثارت فى وجه الجيش أو التى اشتركت فى قتل الحامية الفرنسية بالمنصورة. و اشتدت الاضطرابات فى منطقة ميت غمر و دنديط و ميت الفرماوى.



الحملة على البحر الصغير:
اهتم نابليون بإخضاع بلاد البحر الصغير، الموجودة بين المنصورة و بحيرة المنزلة، و ارتياد الجهات الموصلة للبحيرة، و كان يرمى من جهة لإخضاع تلك البلاد، و من جهة أخرى إلى تأمين المواصلات بين دمياط و المنصورة و الصالحية و بلبيس حتى يطمئن لحدود مصر الشرقية.


فجرد حملة عسكرية لإخضاع البحر الصغير، و معاقبة القرى الثائرة فى هذا الإقليم، و عهد إلى هذه الحملة إلى ماعهد به إليها معاقبة بلدتى (منية محلة دمنة و القباب الكبرى) الواقعين على بحر أشمون أذ جاهر أهلهما بالعصيان و الامتناع عن دفع الضرائب و الغرامات التى فرضت عليهم.




6-فى دمياط:
امتدت شعلة الثورة إلى دمياط فى أوائل سبتمبر 1798 و كان حسن طوبار زعيم إقليم المنزلة، سار بسفنه لدمياط ليشارك مع أهلها فى الدفاع ضد الاحتلال الفرنسى. و كانت المعارك ضارية فى المدينة و القرى المحيطة بها، فقد تمكن أهالى عزبة البرج من إفناء الحامية الفرنسية المعسكرة بها. ثم بدأ الجنرال فيال هجومه و تغلب على الثوار و ردهم على أعقابهم، فانسحبوا إلى قرية " الشعراء" و هى جنوب دمياط، فتقدم الفرنسيون نحوها و كان يدافه عنها نحو 1500 من الثوار، فاقتحم الجنود القرية و استولوا عليها و نهبوا و أضرموا النار فيها، و خسر الثوار فى المعركة نحو خمسين قتيلا و خسر الفرنسيون إثنى عشر قتيلا و ثلاثين جريحا. ثم استمرت حملات الفرنسيين التأديبية حتى أصبحت مدينة دمياط أشبه بسوق أو مولد يبيع فيه الفرنسيون مانهبوه و سلبوه، فكانوا يعرضون المواشى و الطيور و الثيران ...إلخ .

و تفاقمت الثورة فى البلاد الواقعة بين المنصورة و دمياط، و تعددت حوادث مهاجمة الثوار للسفن الفرنسية المقلة للجنود فى النيل، فأمر نابليون بتجريد قوة برية بحرية مزودة بالمداع للسيطرة على بحيرة المنزلة و القضاء على نفوذ حسن طوبار. و لكن بحيرة المنزلة كانت مليئة بمئات الجزر مماسهل على الثوار المناوة و الأختفاء. و قد فاجأوا القوة البحرية الفرنسية مما اضطرها للتراجع حتى عادت لدمياط، لكنهم احتلوا بلدتى المنزلة و المطرية مماجعل استمرار المقاومة فى الجزر بغير قواعد برية أمرا متعذرا، فترك حسن طوبار المنزلة إلى غزة.


معركة الجمالية


واصلت الحملة سيرها حتى وصلت (برنبال الجديدة) ثم غادرتها ووصلت بحرا تجاه الجماليةعلى البحر الصغير، فوحلت السفن الفرنسية فى بحر أشمون من قلة المياه، و انتهزها الأهالى فهاجموا السفن الفرنسية و كانوا يتبعونها من بعيد، و اشترك فى هذا الهجوم أهالى الجمالية فأطلقوا النار على السفن و أمطروها وابلا من الحجارة من على اسوار بلدتهم، فأمر قائد الحملة بإنزال الجنود إلى البر لرد الهجوم، و امكنه أن يفرق الجموع التى أحدقت بالقوات الفرنسية، و لكنه بعد قتال أربع ساعات انسحب من الموقع الذى نزل به و رأى أنه لايستطيع الثباتبه و لا متابعة السير فى بحر أشمون، فأضرم النار فى الجمالية و عاد أدراجه إلى المنصورة و من معه من جرحى و قتلى، و كانت معركة الجمالية ذات شأن خطير، و قد أشاد جنود الحملة ببسالة و شجاعة المصريين المقاومين.


الخلاصة


فى أواخر شهر مايو 1799 و فى منطقة ميت غمر احتشد عدد كبير من الثوار وانضم إليهم جماعة من المماليك و هجموا يوم 30 مايو على سفينة حربية فرنسية قادمة بالنيل من سمنود فاستولوا عليها و غنموا مابها
و استمرت مقاومة الشعب المصرى فى الوجه البحرى للاحتلال الفرنسى بالرغم من عدم تكافؤ الفرص و لم تهدأ إلا برحيل هذا الاحتلال عن مصر.

ثانيا :المقاومة فى الوجه القبلى:
فر مراد بك إلى الصعيد منهزما بعد موقعة الأهرام مع الجنود الفرنسيين، و اتجه بفلول جيشه إلى الصعيد ليكون بعيدا عن هجمات نابليون الذى عزم على إخضاع الوجه القبلى. فقد وجد نابليون أن فرارقوة مراد بك إلى الصعيد تعدد سلطة الحكومة المركزية، و ستكون نواة لمقاومة شعبية ، و تعطل الملاحة فى النيل عندما بدأت تمنع سفن الغلال من الإبحار للقاهرة. لذلك عين الجنرال ديزيه قائدا للحملة على الصعيد و مانت مؤلفة من نحو خمسة آلاف جندى من الفرسان و المشاة و المدفعية.
و قبل أن تسير الحملة أراد مراد بك أن يذخر جنوده و يمنع الحرب بإقطاع مراد بك مديريات جرجا و قنا و أسوان على ألاتزيد فرسانه عن 500ألى 600 فارس ، و أن يؤدى الضرائب للجيش الفرنسى. و ظن مراد بك أن نابليون فى موقف حرج عندما عرض عليه هذا الطلب فرفضه، و كان ذلك من حسن حظ الشعب المصرى لأنه إذا تحالف الاستعمال مع الاستغلال لكانت الفريسة هى الشعب المصرى.
و فى ليلة 25-26 أغسطس 1798 بدأ الجنرال ديزيه زحفه من الجيزة مطاردا مراد بك إلى إقليم البهنسا و الفيوم ثم أسيوط و جرجا مخترقا أطلال دندرة الكرنك و الأقصر الضخمة إلى أسوان و فيلة. ز مراد بك ينطلق بأقصى سرعته تارة هاربا و تارة منقلبا ليهاجم الفرنسييس، يختفى مرة فى واحة الصحراء و يعود مرة أخرى للظهور من خلفهم، ينكمش جيشه إلى بضع مئات من الأوفيائ و لكنه لايلبث أن يجمع الأحلاف و الجيوش الجديدة ثم ينتهى به المطاف حيث بدأ.
وصلت حملة ديزيه إلى بنى سويف يوم 31أغسطس و احتلنها دون مقاومة، ثم تحركت الحملة صاعدة فى النيل ووصلت إلى المنيا فى 9 سبتمبر، ثم أسيزط فى 14 سبتمبر و فى 7 أكتوبر وصل ديزيه بلدة سدمنت حيث جمع مراد بك نحو 4000إلى 5000 فارس من المماليك و العربان، و دارت معركة من أشد المعارك هولا كدت تسحق بها قوات ديزيه لولا قوة المدفعية الفرنسية. و قد انتصر الفرنسيون و قتل منهم أريعة و أربعون و جرح مائة، و قدرت خسائر المماليك بأربعمائة و تقهقر مراد بك إلى الفيوم.
و تغيرت الحرب بعد هذه المعركة فصارت مقاومة محلية تتجدد تبعا للأحول و المفاجآت.و كان هذا النوع من المقاومة اشد خطرا على الجيش الفرنسى من المعارك المنظمة خاصة و أن هناك فرقا بين الصعيد و الدلتا، إذ كان يسهل امداد القوات المحاربة فى الدلتا لسهولة التنقل فيها أم الصعيد فلم يكن الإمداد سهلا و طول المسافات كان فى صالح المدافعين و منهكا لقوى المهاجمين. و ظل الزحف مستمرا حتى أسوان دون أن يقدر الجنرال ديزيه على إخضاع الأهالى، فما وجدا إنسان قبل السلطة الفرنسية أو رضى بالاحتلال، و المل يحمل سلاحه و الكل فى معركة.
1- بين اسيوط وجرجا


واجه الفرنسيين فى الصعيد مابين جرجا و أسيوط ثورة واسعة النطاق بعيدة المدى. و كلف الجنرال دافو لقمع هذه الثورة، فقام من جرجا ووصل إلى سوهاج يوم 3يناير 1799 حيث كانت تحتشد قوة من الثائرين تقدر بأربعة آلاف من الفلاحين المسلحين بالبنادق و الحراب يشد أزره سبعمائة من الفرسان. و نشب القتال بين الفريقين و لكن الأهالى على كثرة عددهم لم يكونوا معتادين على خوض معارك حديثة، فأصلتهم فرقة الفرسان نارا حامية تراجعوا أممامها تاركين ثمانين من القتلى. و مع ذلك لم تنكسر شوكة الثائرين رغم هزيمتهم مرة ثانية فى طهطا 8 يناير حيث خسروا 150 من الفرسان و ثمانيين من المشاة، و انتقم الفرنسيون انتقاما فظيعا من القرى التى أطلقت عليهم النار فقتلوا من أهلها حمسمائة رجل و احرقوها.
و فى 22 يناير من نفس السنة و قعت معركة سمهود بين جيش مراد بك الذى يتكون من 1500 مملوك و الباقون من الأهلى الذين انضموا إليه، و يقدر نابليون عددهم فى مذكراته بسيعة آلاف من الفرسان المصريين و ثلاثة آلاف من المشاة و ألفين من عرب ينبع و جدة بقيادة الشريف حسن، فى حين كان الجيش الفرنسى و عدده خمسة آلاف مزودين بالمدافع و البنادق الحربية. و هزم مراد بك و فر المماليك إلى الصحراء، و الفرنسيون يجدون فى مطاردتهم فلما وصلوا أسوان كان مراد قد أوغل فى أعماق السودان.



2-فى أسوان:

فى أول فبراير من نفس السنة احتل الفرنسيون أسوان، و بذلك تم لهم احتلال الصعيد بأكلمله. و عندما أرادوا أن يعبروا النيل إلى جزيرة فيلة فى مراكب الأهالى لم يقبل أحد منهم أن يسلك مركبه . فلقى الفرنسيين مقاومة شديدة و حمل الأهالى أسلحتهم و صاحوا صيحات القتال. و يوم 20 من نفس الشهر احتل الفرنسيين الجزيرة، و فى 21 احتلوا الجزر الأخرى المجاورة لها و التى شارك أهلها فى الثورة و أخذ الفرنسيين يحصنون أسوان.
و لا جدال أن الشعب المصرى كان يعلم أنه يخوض معركة غير متكافئة أمام المدافع و القوة العسكرية المتفوقة. و مع هذا لم يخطر ببال أحدا الفرار و لا فكر فى الاستسلام، بل احتقروا المماليك الذين كانوا يفرون دون أن يشعروا إحساس المواطن الذى يدافع عن شرفه و شرف قومه، و لعل الدفاع القومى رغم عدم ظهوره بالمعنى الواضح كان يتكون فى أعماق الشعب المصرى العربة و هو يحارب الاحتلال دون ان يكترث للماليك الذين يختلف معهم فى القومية.


3-فى قنا:

عندما كان نابليون منهمكا فى الحملة على سوريا،و كان الجنرال ديزيه مقتفيا أثر المماليك فى الصعيد عاكست الرياح الأسطول الفرنسى قرب بلدة البارود، و كانت مؤلفة من إثنى عشر سفينة مسبحة بالمدافع الضخمة و محملة بالمؤن و الذخائر و الأمتعة و خزينة الحرب و آلات الموسيقى ، و تقل حوالى ثلثمائة جندى و مائتى ملاح. فهاجم أهلى قنا الأسطول الفرنسى فى 3 مارس 1799، و نزل عدد كبير منهم إلى المياه سابحين نحو السفن . و قد أطلقت السفن مدافعها على المهاجمين و مات كثيرون دون أن يوقف ذلك محاولة الوصول إلى السفينة "إيطاليا" ، ووجد قائدها "سوراندى" أنه مغلوب على أمره فأمر بحارته و جنوده القفز فى الماء و أشعل النار فى مخزن البارود فى السفينة فنسفت إلى شظايا أصابت الكثيرين، و دارت معركة مائية بالأيدى و الخناجر. و كذلك صنع بقية رجال السفن الفرنسية المرافقة بعد ان رأوا عنف الهجوم. و هلك قائد الفرنسيين فى هذه المعركة و جميع جنوده و عددهم 500 و كانت هذه أكير خسارة منيت بها القوات الفرنسية فى معركة واحدة.
و روعة التصميم الذى أبداه أبناء قنا فى الهجوم الجرىء لا مثيل له فى تاريخ الفدائية. و لقد غنم الأهالى كثيرا من الذخائر و بعض المدافع التى كانت تحملها السفن المتطورة و الخزينة و مافيها من مال .
و فى أبنود ظهرت هذه الغنائم التى شدت من عزم الشعب على المقاومة، فقد دارت مع الفرنسيين معركة رهيبة استمرت ثلاثة أيام لم تنته إلا بإحراق البلدة إحراقا تاما حتى تحولت إلى تراب. و على الرغم من المئات العديدة التى خسرها الأهالى فقد أثخنوا الجيش الفرنسى بجراح مؤلمة، إذ قدرت خسائره ب 169 قتيل و جريح.


و هكذا ظل الجيش الفرنسى يطارد قوات شتى لا عداد لها و لا يكاد يتغلب عليها حتى تتجمع و تعود ثانية للقتال فى ميدان واسع يمتد من الجيزة شمالا إلى أسوان جنوبا و من القصير شرقا إلى واحات الصحراء غربا دون إقرار السلطة الفرنسية لها.
و هكذا صح ماذكره قواد نابليون فقد تحولت حرب الصعيد إلى حرب حقيقية، فكتب ديزيه لنابليون فى 17 مارس 1799 يقول:
"إنى لا أكتمكم الحقيقة... إننا لن نكون سادة هذه البلاد، لأننا إذا أخلينا بلدة لحظة من الجنود عادت لحالتها القديمة."

1 التعليقات:

ابن النفيس يقول...

اللون الأزرق صعب جدا و يمنع قراءة المقال

إرسال تعليق