الجمعة، 15 مارس 2013

يامن لايوصف بالظلم والجور..ارحم عبدك الغورى



كانوا يأتون الى مصر من شبه جزيرة القرم ..ومن بلاد القوقاز ومن فارس والتركستان  ومن بلاد ماوراء النهر وكان بعضهم يأتى من ضفاف بحر البلطيق ومن حوض الدانوب ..فترتفع مكانة بعضهم احيانا وتسموا منزلته فيصبح أميرا ويصبح الطريق امامه ممهدا لتولى الوظائف الكبرى فى الدولة ..
هؤلاء هم المماليك ..وهذا ماكان يجرى لهم ...وهذا ماجرى للسلطان الغورى .. فماهى  حكايته ؟
بدأمملوكا للسلطان قايتباى الذى أعتقه لذكائه وشجاعته وعلو همته ..فأصبح بعدها من كبار اهل الحل والعقد فى البلاد
ثم سلطانا رغم أنفه ..ولا تتعجب فهذا ماحدث بالضبط !!
فقد كان الغورى فى الستين من عمره يوم عرضوا عليه تولى الحكم والسلطنة ..لكنه وعلى غير العادة  رفض العرض ..كان رفضه غريبا فالمماليك جرت عاداتهم ان يتقاتلوا للوصول الى العرش وأن يكون الفائز هو الاقوى ...
لم يقبل المماليك أعتذار الغورى ..فسحبوه بالقوة وهو يقاوم وخلعوا ملابسه وألبسوه الجبة ووضعوا العمامة على رأسه بالاكراه بعد أن أمسكوا بيديه وشلوا حركته ..فهى عمامة السلطنة !!
وبايعوه سلطانا وبعدها كف الغورى عن المقاومة ..لكنه فجأة انخرط فى البكاء ...ثم اشترط شرطا واحدا لقبول السلطنة ..
سألوه عن هذا الشرط...
فقال : ألا يقتلوه اذا ما فكروا فى خلعه
فوافقوا على ذلك ...
وطلب أن يحرروا له محضرا بذلك فحرروا المحضر ومن ساعتها أصبح الغورى السلطان الرابع والعشرين فى دولة المماليك ...واخرهم كما سنرى!!!


يقول ابن اياس فى نعته للسلطان :
انه كان طويل القامة ...غليظ الجسد.... ذا كرش كبير........ ابيض اللون ......مدور الوجه ..... مشحم العينين...جهورى الصوت...مستدير اللحيه...وأن الشيب لم يظهر بلحيته الا قليلا..

ويحكى أن الغورى عندما أصيب بمرض فى جفونه وخشى على نفسه من العمى كان يبكى ويتضرع الى الله ويقول يامن لايوصف يالظلم والجور ...ارحم عبدك الغورى ..ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ..وكان ينادى ربه : يابصير يابصير

كانت للغورى نزعة دينية شديدة وتمسك قوى بتعاليم الاسلاموالحفاظ على مظاهره وشعائره وفضلا عن تقربه لله ببناء المساجد والمدارس كان ايضا غيورا على الدين وعلى الاخلاق ومواظبا على الصلاة وعلى اداء صلاة الجمعة دون انقطاع فى مسجد القلعة وكان شديد الاهتمام باحياء المواسم والموالد والاعياد الدينية وكان لشهر رمضان اهتمام خاص لديه وكانت صدقات رمضان يتم اعدادها من جانب ناظر الدولة وتحمل على عربات تسير فى شوارع القاهرة فى طريقها الى القلعة ..كما كان يستعرض نزلاء السجون ويطلق سراح الكثيرين منهم ويسدد ديونهم كذلك
كما كان الغورى كثير الالتجاء الى الله وخاصة فى وقت الازمات التى تداهم البلاد فكان يلغى الضرائب الظالمة ويصادر اماكن الخمر والفسوق وينادى مناديه فى الشوارع باتباع أوامر الدين وتأدية فروضه كما منع الامراء من النظر فى قضايا المتخاصمين وترك ذلك لقضاة الشرع ...

ومن اشهر حكايات السلطان الغورى حكايته مع مضحكه وبهلوانه ((على باى ))
فقد كان الاقرب اليه والاقدر على اضحاكه ..
كان على باى يرقص ويغنى ويمثل دور العفريت ..وكان حريصا على أن يكون ملازما للسلطان ولكل رجال الدولة من اكابر المماليك !!
فكان يسمع الكثير ويعرف أكثر ....كان يعرف كل الاسرار ..
ولكن تبين فيما بعد ان على باى لم يكن مضحكا فقط ..بل كان جاسوسا للسلطان العثمانى سليم الاول الذى مثل الخطر الوحيد والاكبر الذى واجه السلطان الغورى ...
وتلك حكاية أخرى ...

لم ينظر المماليك الى العثمانيين فى أول الامر بمنظار العداوة او المنافسين لهم فى السيطرة والنفوذ فى العالم الاسلامى لأن هؤلاء لم يعادوهم بعد.
بل ان المماليك فى أول الامر ومثل بقية المسلمين كان يثلج صدورهم انتصارات الغثمانيين على الروم وقضاؤهم نهائيا عليهم .
بل ان العثمانيين انفسهم كانوا فى وئام مع المماليك فى بداية الامر ايضا ويظهر ذلك فى رسائلهم المتبادلة مع سلاطين المماليك باعتبارهم قادة العرب وحماة الحرمين الشريفين  فكان يتردد فى رسائلهم ان المملكتين روحان فى جسد وساعدان فى عضد وهكذا سارت الامور ..ففى عهد مراد العثمانى ارسلت منه تهنئة الى السلطان برسباى المملوكى يهنئه بفتح قبرص
وكثيرا ماكان سلاطين ال عثمان يستشيرون سلاطين مصر فى حملاتهم الاوربية وينزلونهم منزلة الاباء وان انتصروا فى معارك ضد الروم او الفرنجة أرسلوا اليهم بعض الاسرى منهم كما ان بعضهم قد يطلب اطباء مصريين لمعالجتهم او حتى بعض منتجات مصرية ..
لكن العثمانيين وبعد انتصاراتهم فى اسيا ضد الدولة الصفوية وفى اوروبا ضد الروم أصبحوا يرون انهم يستحقون مركزا خاصا بين مسلمى الشرق وخاصة
وان العقلية الاسلامية فى هذا الوقت لاتقبل ان يكون صاحب سيادة وشرعية على المسلمين الا من كان يسيطر على الحرمين .. ولم يكن لذلك ان يتحقق للعثمانيين الا بالاستيلاء على املاك المماليك فى مصر والشام وبلاد الحرمين .
وقد بدأت العداوة بين المماليك والعثمانيين فى الظهور فى عهد السلطان قايتباى بسبب تشجيع الاخير للعنصر الضعيف فى الصراع على الحكم فى البيت العثمانى حيث ناصر الامير جم ضد السلطان بايزيد ورغم محاولات باى تونس عثمان الصلح بين قايتباى وبايزيد الا انها بائت بالفشل مما جعل قايتباى يسرع بتحصين البلاد فبنى قلعته المشهورة بثغر الاسكندرية خوفا من غزو مفاجئ !!
بايزيد الثانى

فلما تولى السلطان قانصوه الغورى بعد قايتباى سعى الى ان يصلح الامور مع بايزيد الثانى فأعلن له فى رسالة :
ان سلفه قايتباى(( انعوج عن المصادقة ))الا انه على عكسه تماما يسعى اليها ويعترف الغورى فى رسالته بمواقف بايزيد فى الجهاد ضد الاوربيين ويصفه بالسلطان الغازى .
وتبدو حيطة الغورى فى انه قد رفض ان يجئ ابن بايزيد الثانى الى مصر فى طريقه للحج الا اذا اذن له ابوه بذلك فارسل قورقود بن يايزيد رسالة الى والده يستأذنه فى ذلك مع احد علماء الازهر الشريف فأرسل بايزيد رسالة الى الغورى يشكره على ذلك ويلقبه فى الرسالة بالاخ
وبعد موت بايزيد الثانى  اصبح السلطان سليم الاول سلطان العثمانيين بعد ان قتل معظم اخوته وربما قتل ابوه ايضا كما فى بعض الرويات حتى عرف سليم باسم
((ياووز)) اى الصارم او الجبار البطاش فلم يكن فى قلبه رحمة بشكل غير عادى ولم يكن يهمه غير شخصه فقط 
السلطان سليم الاول

وهنا بدأت النهاية ..
فقد هرب سليمان وعلاء الدين وقاسم ابناء الامير احمد ابن بايزيد الثانى من الكوفه خوفا من قتلهم على يد اتباع السلطان سليم الاول ..
وان كان السلطان الغورى قد استقبلهم فى مصر على مضض .. وقد مالت الاولان
بالطاعون فارسل السلطان سليم يطلب من الغورى تسليم قاسم وكان صغيرا فى السن لايتعدى ثلاث عشرة سنة فرفض الغورى طلبه لان الغورى ادرك ان سليم سيحاربه لامحالة لاطماعه فى بلاده...
الغورى كان يدرك تماما ان سليم الذى اجترأ على اقتراف كل الجرائم بحق والده وعائلته وفى حروبه ايضا لن يتورع عن قتاله بمجرد فراغه من محاربة اسماعيل الصفوى فى بلاد فارس ..
كان سليم فى هذه الاثناء يتلون مثل الحرباء فتارة يتحرش بالغورى بحجة أنه يأخذ جانب الشيعة ويعتبر ذلك تحديا له ..
الشاه اسماعيل الصفوى

وتارة اخرى يرسل للغورى رسالة يصفه فيها بالوالد !!!
ويطلب فى رسالته تلك سكرا وحلوى.. فيسرع الغورى بأرسال مائة قنطار منه فى علب كبار .
ومع ذلك وفى نفس الوقت يهاجم سليم الامارات التركمانية التى تعتبر حليفه للغورى والفاصلة بين حدود المماليك والعثمانيين مثل امارة ذوالقادر بل ان سليم استولى على مدينة مرعش وهى من املاك المماليك !!
ورغم كل ذلك لم يستعد الغورى لقتال سليم جيدا فقد كان يأمل فى المصالحة دائما ويرى فى بعض الاحيان ان سليم لن يجرؤ على حربه حربا شاملة ..
ولم يستمع الغورى لنائبه سيباى فى الشام حينما استحلفه الا يأتى بنفسه لمحاربة سليم ولكن يمده بالعسكر كما طلب منه سيباى الا يحارب فى هذا العام لوجود قحط فى البلاد
أخذ الغورى حربه مع سليم بخفة والدليل على ذلك:
-اطلق الغورى على خروجه الى الشام تجريدة وليس حملة.
-كما خرج فى موكب تتقدمه الافيال المزينة بأنواع الزينة والمباخر تفوح منها رائحة البخور.
-كما صحبته المغانى وصحب معه الات السلاح الفاخر من ذخائر الملوك السابقين مثل السيوف والسروج المذهبة والمزينة بالجواهر والتى حملت على خمسين جملا !!!!!!!!!!!
(( اشتهر عن الغورى حبه للبذخ فكان يضع فى اصابعه الخواتم والياقوت والفيروز والزمرد ومترفا فى ملابسه ولايشرب الا فى طاسات الذهب ))
-كما كان الغورى يحتفل بوصوله الى كل بلد فعندما وصل دمشق زينت له سبعة ايام فأقيمت فيها المواكب ونثر على فرسه الذهب وفرش تحت حافره بساط الحرير !!!


وعندما وصل الغورى الى حلب أرسل احد امرائه الى السلطان سليم ومعه نص الصلح كما ان خطبة الجمعة فى جامع حلب كانت كلها عن الصلح وحتى الامراء المماليك كانوا ينتظرون الجواب بالصلح ويحنون للعودة الى مصر ..
الا ان سليم رفض الصلح وقبض على رسول الغورى ووضعه فى الحديد وحلق لحيته ويقال ان الغورى ارسل اخرين فقطع سليم رؤوسهم ..
وهنا دفع الغورى بطوالع جنده الى مرج دابق من اعمال حلب وقال:
انها ارادة الله
وخوفا من غدر امرائه جمعهم وجعلهم يحلفون على المصحف الشريف ان لايخونوا ولا يغدروا فحلفوا كلهم على ذلك
اما غير الامراء من الجند فأنهم مروا تحت سيفين على هيئة قنطرة عنوان القسم على الولاء.
ودارت المعركة فى يوم الاحد الخامس عشر من رجب سنة 922هجرية الموافق الرابع والعشرين من اغسطس سنة 1516 ميلادية فى يوم شديد الحرارة احاطت به الخيانة من اوله فقد سرت اشاعة مغرضة ان الغورى يريد التخلص من مماليك القرانصة ((مماليك السلاطين السابقين)) فدفع بهم فى المقدمة بينما أمر المماليك من الجلبان الا يقاتلوا وهذه الاشاعة دفعت القرانصة وهم فى المقدمة بالتوقف عن القتال رغم ان الهزيمة كانت من نصيب العثمانيين الى هذا الوقت !!
وتتمة للخيانة هرب خاير بك بجنوده ثم تبعه جان بردى وحنوده وحاول الغورى فى هذا الوقت ان يوقف فرار المماليك حيث اصبح فى نفر قليل فأخذ ينادى بصوته:
هذا وقت المروءة هذا وقت النجدة الا ان المماليك استمروا يفرون حينئذ طوى حامل راية السلطان(( الصنجق السلطانى)) رايته  وحدث شلل مفاجئ للسلطان وخرجت روحه الى ربها بعد ان انقلب عن فرسه ويقال ان راسه قطعت من مماليكه الاقرب حتى لايتعرف عليه العثمانيين فلم تظهر له جثة بين القتلى وكأن الارض ابتلعتها فى الحال


وهكذا انتهت حياة السلطان  الملك الأشرفى أبو النصر قانصوه بن بيردى الغورى الأشرفى قايتباى

1 التعليقات:

Unknown يقول...

like

إرسال تعليق