عندما أراد بطرس الأول لوزجنان ملك قبرص أن يصوب هجماته الوحشية باتجاه المسلمين، تلقى النصح بأن يهاجم الإسكندرية في يوم جمعة، فيما المسلمون منهمكون في صلاة الجمعة بالمساجد، ونائب الإسكندرية في ذلك الوقت صلاح الدين خليل غائب لأداء فريضة الحج، وينوب عنه أمير ضعيف يدعى جنغرا، ليست لديه خبرة بشؤون الحرب، ولأن الملك الطموح بطرس الأول كان يخشى مهاجمة مثل هذه المدينة القوية، فقد أعجبته فكرة خداع المسلمين، وكان احتلال مصر عن طريق الإسكندرية يعني بالنسبة إليه بداية الطريق نحو تحرير الأراضي المسيحية المقدسة من الحكم الإسلامي، وبرغم السرية التي أحاط القبارصة بها أخبار حملتهم المرتقبة، فقد تسربت تلك الأخبار إلى المصريين، لكنهم لم يأخذوها بجدية، ظناً منهم أن القبرصيّ أضعف من أن يقدم على هكذا خطوة، وكل ما قام به نائب السلطنة في المدينة أن قام بتعلية سور المدينة القصير في بعض الجهات التي تواجه الميناء.
وانقض بطرس الأول ملك قبرص بجيشه الصليبي على الإسكندرية في مثل هذا الشهر الهجري محرم من عام 767 الموافق 1365 ميلادي، واعتقد السكندريون في البداية أن الأسطول قادم من البندقية ليشتري التوابل كالمعتاد، فأسرعوا لاستقباله، غير أنهم فوجئوا بعد أن رسا الأسطول على الشاطئ أن ركابه يشهرون سيوفهم، ولم يتمكن أحد من دحرهم، وهم يضرمون النار في كل ركن بالمدينة، ويدنسون المساجد ويعلقون عليها الصلبان، ويغتصبون النساء، ويقتلون الأطفال والشيوخ، وبلغ من وحشيتهم ورغبتهم في التشفي ـ كما يقول المؤرخ السكندري النويري ـ أنهم كانوا يقتلون المرأة ويذبحون ابنها على صدرها، ولم يفرقوا في النهب والتدمير بين المنشآت الخاصة بالتجار المسلمين أو تلك التي تخص المسيحيين، مثل فنادق أهل جنوة ومرسيليا..
ثغرة باب الديوان!
وفي صباح اليوم التالي أقبل مزيد من السفن القبرصية، واحتشد المقاومون السكندريون خلف أسوار المدينة للذود عنها ضد الزحف القبرصي.. وبالفعل لم ينجح المهاجمون في البداية في الاقتراب من تلك الأسوار بأبراجها المنيعة، بسبب سهام المدافعين القوية، لكن العدو اكتشف جانباً من السور بلا دفاعات، فنصب عليه السلالم الخشبية، وصعد عليها الجنود القبارصة المعتدون، وتوجهوا إلى أحد أبواب المدينة ويدعى (باب الديوان) فأحرقوه، وأربكت المفاجأة المدافعين، فيما تدفق القبارصة إلى داخل المدينة، وفزع الناس ففروا نحو بوابات المدينة هرباً، مما أدى إلى وفاة المئات من شدة الزحام! وبقي القبارصة بالمدينة ثلاثة أيام، قبل أن يغادروها عائدين إلى جزيرتهم، بالعديد من الأسرى، الذين بلغ عددهم نحو خمسة آلاف ما بين مسلمين ومسيحيين ويهود، رجال ونساء، علاوة على حمولة سبعين سفينة من الغنائم، حتى أن بعضها اضطر إلى إلقاء أجزاء من حمولته في البحر خلال الطريق، من شدة ثقلها، وترك القبارصة خلفهم حطام مدينة كانت رمزاً للحرية والانفتاح على العالم، وقد خلد المؤرخ السكندري النويري في كتابه (الإلمام) هذه الوقائع المؤلمة... وفيما بعد دارت مفاوضات للصلح بين سلطان مصر وملك قبرص بطرس الأول، أسفرت عن تبادل للأسرى.
الهدايا..والانتفاضة!
ولم تنقطع غارات القبارصة عن موانئ المسلمين، وفشل المماليك في صدها، بل ووقعت طرابلس الشام فريسة لإحداها عام1393م، كما سقطت سفينة للمسلمين وأسر من كان بها في يد قراصنة القبارصة عام 1423م، وسقطت في العام التالي سفينة أخرى محملة بالهدايا كان السلطان برسباي قد بعث بها إلى السلطان العثماني مراد الثاني! عندئذ فقط انتفض برسباي المملوكي، وقرر أخيراً أن يلقن القبارصة درساً، فجهز ثلاث حملات لاستعادة جزيرة قبرص في ثلاثة أعوام متوالية
نجحت الحملة الأولى ـ وكانت صغيرة ـ في الهجوم على ميناء ليماسول، وأحرقت ثلاث سفن قبرصية كانت تتأهل للقرصنة، ثم عادت إلى القاهرة بغنائم كثيرة، ثم أوفد برسباي حملته الثانية لإعادة فتح قبرص في مايو 1425م، وكانت هذه المرة تتألف من أربعين سفينة، وأخذت طريق الشام، ومنها إلى قبرص، فدمرت تماماً قلعة ليماسول، واغتالت خمسة آلاف قبرصي، وعادت إلى القاهرة بألف أسير، علاوة على الغنائم، أما الحملة الثالثة فكانت أعظم من السابقتين، وضمت ثمانين سفينة، أقلعت من ميناء رشيد المصري عام 1426م، وذهبت رأساً إلى ليماسول، التي استسلمت سريعاً للمسلمين في الثاني من يوليو 1426م، ثم اتجهت شمالاً في جزيرة قبرص، فأسقطت ملك الجزيرة في الأسر، واحتلت نيقوسيا العاصمة، وهكذا عادت قبرص إلى المماليك.
0 التعليقات:
إرسال تعليق